اعتقد كثير من المسلمين فيما مضى أن الفقر دليل على شدة التدين، والفقراء أحباب الله، وأنهم سيدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، فالدنيا هى عدو الله، ولا يجب على الإنسان أن ينشغل بها، بل ينبغى أن يكرهها، وكلما كرهها أكثر ازداد قربا إلى الله، واقترب من «فضيلة الفقر». وقد عرف الإمام الغزالى الفقر بأنه «غياب ما يحتاج إليه»، ووفقا لهذا التعريف فإن كل الموجودات فقراء، لأنها جميعا تحتاج إلى الله سبحانه وتعالى لاستمرار وجودها، والله وحده هو الغنى الذى لا يقوم وجوده على أى كائن آخر، وقد اعتمد كثير من الصوفية هذه الرؤية فلبسوا أخشن الثياب، وتخلى بعضهم عن ثيابه كلها إثباتا لحسن إيمانه، فعرفهم الناس بالمجاذيب. أما الإمام ابن الجوزى فقد رأى أن الفقر لا يمكن أن يكون مرغوبا، فالفقر مرض على من ابتلى به أن يعالجه بالصبر وسينال ثوابه على هذا التحمل، أما الثروة فإنها نعمة يجب أن يكون المرء شاكرا لله من أجلها، والغنى الذى يتقى الله لا يختلف عن العالم أو المجاهد فى سبيل الله، فالناس يخضعون لامتحان الله بوسائل مختلفة، منها الثراء والغنى، وربما كان ابتلاء المؤمن الغنى أشد، لأنه مع كل المغريات، عليه أن يسلك الطريق القويم. وقد هاجم ابن الجوزى الفكرة القائلة بأن رفض الدنيا يؤدى إلى معرفة الله، فالذين يتركون أنفسهم وأبناءهم فى حالة من العوز، يرتكبون إثما كبيرا، لأنهم يدفعون ذويهم إلى أن يسلكوا دروبا غير شريفة كى يحافظوا على بقائهم. بعيدا عن الخلاف بين العالمين الجليلين، فأنا أؤمن بأن الله سيحاسبنا على تقصيرنا فى السعى وإعمار الكون، فنحن خلفاؤه فى الأرض، وهو يدعونا إلى «الاشتغال» فى الدنيا لا «الانشغال» بها، وأظن أن هذه هى آفة بعض أغنياء زماننا، المنشغلون بالدنيا إلى حد الهوس، المنهمكون فى الارتشاف من ملذاتها دون ارتواء، الذين يزيدون الفقراء إحساسا بفقرهم، بأنماط استهلاك مستفزة، واستعراض غشوم لثرائهم المشكوك فى مصادره، غير منتبهين إلى دورهم الاجتماعى، وما توصيهم به الرسالات السماوية كلها من ضرورة مساعدة المحتاجين، وما كانت تردده جدتى وجداتهم، طبعا، عن الكفن الذى ليس به جيوب.
