لأن الحياة علمته «عدم التشبث بالمطرح» كما يقول دائما، فإن الالتقاء بالشاعر الفلسطينى الكبير مريد البرغوثى كان أمرا يستلزم خطة تتبع لمحطاته الجغرافية التى ينحصر أغلبها الآن بين القاهرة والعاصمة الأردنية عمَان. كان اللقاء الأول خاطفا أثناء حضوره لحفل توقيع للكاتبة أهداف سويف،التى ترجمت كتابه الأشهر «رأيت رام الله» إلى الإنجليزية، ورغم هيبة لقاء قيمة وقامة شاعر بتاريخه، إلا أننى لمست فى نبرته بساطة آسرة بعيدا عن التكلف والتصنع تماما كلغة شعره، أما اللقاء الثانى فاستقبلنا فيه فى بيته الذى تزوج فيه قبل سنوات طويلة من الكاتبة رضوى عاشور، وهو بيت أقرب لقصيدة تحتفظ بملامح وسط البلد القديمة وتسودها روح شرقية مقدسية مستمدة من لون الزيتون، وخلال هذا اللقاء عبر البرغوثى عن رغبته فى ألا يقتصر حديثه فى حدود الأدب وصالوناته، وإنما أراد أن يتسع للحال السياسى الراهن الذى استغرق على مدار الحوار فى وصف مظاهر وهنه البالغ. تساءل البرغوثى يوما فى رائعته «رأيت رام الله»، «هل الوطن هو الدواء حقا لكل الأحزان؟ وهل المقيمون فيه أقل حزنا؟»، ويبدو أن هذا الخاطر لا يزال متعطشًا لإجابة. إلى نص الحوار.. لأن الحياة علمته «عدم التشبث بالمطرح» كما يقول دائما، فإن الالتقاء بالشاعر الفلسطينى الكبير مريد البرغوثى كان أمرا يستلزم خطة تتبع لمحطاته الجغرافية التى ينحصر أغلبها الآن بين القاهرة والعاصمة الأردنية عمَان. كان اللقاء الأول خاطفا أثناء حضوره لحفل توقيع للكاتبة أهداف سويف،التى ترجمت كتابه الأشهر «رأيت رام الله» إلى الإنجليزية، ورغم هيبة لقاء قيمة وقامة شاعر بتاريخه، إلا أننى لمست فى نبرته بساطة آسرة بعيدا عن التكلف والتصنع تماما كلغة شعره، أما اللقاء الثانى فاستقبلنا فيه فى بيته الذى تزوج فيه قبل سنوات طويلة من الكاتبة رضوى عاشور، وهو بيت أقرب لقصيدة تحتفظ بملامح وسط البلد القديمة وتسودها روح شرقية مقدسية مستمدة من لون الزيتون، وخلال هذا اللقاء عبر البرغوثى عن رغبته فى ألا يقتصر حديثه فى حدود الأدب وصالوناته، وإنما أراد أن يتسع للحال السياسى الراهن الذى استغرق على مدار الحوار فى وصف مظاهر وهنه البالغ. تساءل البرغوثى يوما فى رائعته «رأيت رام الله»، «هل الوطن هو الدواء حقا لكل الأحزان؟ وهل المقيمون فيه أقل حزنا؟»، ويبدو أن هذا الخاطر لا يزال متعطشًا لإجابة. سبق وقلت: الاحتلال الطويل استطاع أن يحولنا من أبناء فلسطين إلى أبناء «فكرة فلسطين»، برأيك إلى أين وصلت القضية الفلسطينية؟ ■ لدينا اليوم قيادة فلسطينية غارقة فى الوهم، وبجوارها قيادات عربية غارقة فى غيبوبة من مشاكلها الداخلية وفقرها وديكتاتوريتها ونزاعاتها الطائفية والمذهبية وامتناع التداول السلمى للسلطة والحاجة إلى رضا الولاياتالمتحدة بأى ثمن، والقيادتان يتمنيان أن تعطيهما إسرائيل ما لن تعطه (طبعا) ما دامت أحوالنا هكذا، هذا كله أوصلنا إلى مفارقة تخجل لها العقول متمثلة فى تشدد العالم ضد إسرائيل، ورخاوة القيادات الفلسطينية والعربية فى التعامل معها. فلسطين اليوم تبدو لى بلا قيادة، وكأننا اليوم فى نفس أوضاعنا غداة نكبة 1948، الآن فى 2010 فلسطين محتلة، شعبها موزع فى أكثر من بقعة جغرافية، والكل فى انتظار قيادة تشير إلى البدائل المتاحة أو البدائل التى ينبغى خلقها، وأريد أن أذكّر الجميع أنه لم تنجح أمة على وجه الأرض فى مواجهة عدوها إلا إذا اقتنعت بأن النصر ممكن، «النصر ممكن» بشرط أن نسعى إليه فعلا لا قولا، وأن نريده بهدوء العقل والحسابات لا برنين الأغانى ورقص المهرجانات. كيف ترى تأثير المأزق بين فتح وحماس على سير القضية؟ ■ أرجو ألا أصدم أحدا بقولى إن هذا الخلاف ليس مهما بحد ذاته، ويجب وضعه فى سياق حركة التاريخ لكى نفهمه فهو ليس نهاية التاريخ، إننى أدعو القارئ إلى أن يتذكر الحقيقة التى لا يتحدث عنها أحد هذه الأيام وهى أنه من المستحيل أن تسمح الرسميات العربية للفلسطينيين أن يُجمِعوا على موقف يحرج سياسة تلك الرسميات، هذه الرسميات العربية التى افتتحت منذ 1977 موسم التنازلات، لن تسمح لنا نحن الفلسطينيين بأى موقف يناقض خيارها، والتركيز الزائد على خلاف فتح وحماس واختصار القضية كلها فى هذا الموضوع هو تهرب من جوهر المسألة الفلسطينية، الرسميات العربية التى تريد أن تنفض يدها من القضية تردد كالببغاء عبارتها المأثورة «اتفقوا أولا حتى نساعدكم»، بينما هى التى ساهمت فى إفشال الوحدة الفلسطينية وقاطعت حماس فور نجاحها فى الانتخابات. وقيادتا حماس وفتح تهربان إلى خلافاتهما لعجزهما عن إيجاد بدائل سياسية للوضع الراهن. لا بد من ظهور أصوات من فتح تنتقد أخطاء فتح، وهى كثيرة، وأصوات من حماس تنتقد أخطاء حماس، وهى كثيرة أيضا، لكن اختصار قضية عمرها أكثر من قرن باختلاف حزبين عمره ربع الساعة فى التاريخ هو من مؤشرات تخاذل كل الأطراف، المطلوب عربيا ليس وحدة الحزبين على مقاس فلسطين بل المطلوب وحدتهما على مقاس «الغرب الاستعمارى ودول الاعتدال»، وأخطر ما فى الأمر أن الابتعاد المتعمد، بخبث، عن مناقشة جوهر الموقف السياسى الفلسطينى والعربى إزاء العدو سيؤدى إلى كارثة كبرى كانفصال غزة نهائيا فى كيان تحيطه الأسوار الإسرائيلية المصرية، وبعد ذلك يتكفل الاستيطان والمجازر بابتلاع الضفة، والسؤال هو هل: يدرك السياسيون فى بلادنا هذه الكارثة، وماذا أعدوا لمواجهتها؟ كيف ترى الموقف المصرى من التعامل مع ملف معبر رفح؟ ■ أرجو من القارئ أن يتأمل المفارقة التالية، فأبرز التفسيرات الحكومية المصرية لإغلاق معبر رفح وبناء الجدار الفولاذى وإرسال الجيش هو إرجاع هذه الأمور إلى مبدأ حق مصر فى ممارسة السيادة على حدودها، لكن التزام مصر بالشروط الإسرائيلية لتشغيل معبر رفح هو الذى يقضم حصة مهمة من الحق السيادى المصرى، لا أحد ينكر هذا الحق طبعا لأنه حق دولى مقدس وينبغى على كل زوار البلاد احترامه والانصياع له، لكن مصر تمارس، منفردة، كل سيادتها على كل حدودها الأخرى دون تنسيق مع أى دولة أخرى، ما عدا رفح، السيادة المصرية تمارس فى مطار القاهرة بعدد من ضباط الجوازات اللطفاء وبفرض شروط معلنة للدخول، إنْ لبَّاها الزائر تم الترحيب به وإلا أعيد من حيث أتى، وكذلك الحال بالنسبة لحدودها البرية مع الدول المجاورة. وبالتالى لا يمكن أن يدخل مصر أبدا من لا تريد مصر أن يدخل. يتم ذلك كله دون اللجوء إلى بناء جدران فولاذية مع ليبيا أو السودان مثلا، إسرائيل تدس أنفها وتريد أن تضع شروطا تخصها هى للتحكم باستخدام هذا المعبر وأنها وضعت هذه الشروط فى اتفاقيات مكتوبة وتطالب مصر أن تلتزم بتلك الشروط، لقد كان وزير الخارجية المصرى صريحا وواضحا عندما قال إن مصر ملتزمة التزاما تاما باتفاقية المعابر مع إسرائيل. إسرائيل دولة احتلال وحصارها لمليون ونصف المليون من أهل غزة مخالف للقوانين الدولية ويؤدى إلى موت الآلاف نتيجة الجوع ونقص الأدوية ومواد البناء. إن مراعاة مصالح إسرائيل ليست شأنا عربيا ولا ينبغى لها أن تكون. إنها لحظة ضعف رسمى عربى، وهى لا تتجلى فى معبر رفح وحده وسوف يظل هذا الضعف الذى يطلقون عليه اسما آخر هو الاعتدال سببا لمصائب عديدة فى المستقبل المنظور للأسف. فى كتابك الأخير «ولدت هناك.. ولدت هنا» نسجت من العلاقة الأبوية، بين ماضى الأب مريد والابن تميم، قراءة لحال الوطن المحتل، فهل اختلف الحال على مر هذه السنين؟ ■ جيل الآباء عندنا عاش مأساة اغتصاب فلسطين وما تلاه من مجازر وخيبات كبرى، لكنه شهد أيضا بعض الإنجازات وبالتالى واجه واقعا أقل قسوة وأقل فضائحية مما يواجهه جيل أبنائنا. إن أخطاء جيلنا نحن الآباء مسئولة إلى حد ما عن الخراب الراهن، وأنا حزين لما أورثناه لأبنائنا من تبعات فشلنا، لكننى أشعر أن الأمل ممكن وأن النصر ممكن وأتذكر دائما ما كتبه برتولت بريخت: «لأن الأوضاع على ما هى، فإنها لن تبقى كما هى». هل كنت تفكر أثناء كتابة «رأيت رام الله» أن تتبعه بجزء ثان «ولدت هناك.. ولدت هنا»؟ ■ لا، لم أفكر أبدا، بل إننى لم أكن متأكدا من أننى أقوم بكتابة كتاب نثرى أصلا، كنت أكتب ببساطة عن رؤيتى لرام الله بعد غياب ثلاثين عاما ولكنى أكتب الشعر والنثر باللغة الوحيدة التى أعرفها، فلكل إنسان سلوكه اللغوى الخاص. لقد فاجأنى نجاح الكتاب لكنى انتظرت أكثر من عشر سنوات لأكتب كتابى النثرى الثانى وذلك لأن تجربة الأب والابن ظلت تلحّ على خيالى حتى ظهرت فى «ولدت هناك، ولدت هنا». هل نتوقع جزءا ثالثا من هذه السلسلة السردية عن الحال الفلسطينى؟ ■ لا أؤكد ولا أنفى، أنا لا أفكر بجزء ثالث الآن لكن المرء لا يعرف كيف يخضع لنداء أصواته الداخلية ولا يعرف أى نوع من النداءات يلح على قلمه ولا ما يمكن أن تلبيه الكتابة. هل ننتظر صدور الترجمة الإنجليزية ل«ولدت هناك.. ولدت هنا»؟ ■ الترجمة نتيجة ممكنة من نتائج الكتابة وليست هدفا، ضمن هذا السياق ظهرت ترجمات لشعرى ولكتاب رأيت رام الله، ويقوم الآن همفرى ديفيز بترجمة «ولدت هناك، ولدت هنا» إلى الإنجليزية وسوف تنشرها دار «بلومزبرى» فى بريطانيا والولاياتالمتحدة، وسيتلو ذلك ترجمتها إلى لغات أخرى. ولدى ملحوظة مهمة هنا وهى أنه بغض النظر عن الترجمات العديدة يظل جوهر الأمر أن الكتاب مقروء هنا فى العالم العربى ومن القراء العرب، أى أنه مقبول فى محيطه وهذا هو المهم لأى كاتب قبل الترجمات وبعدها. طالما دافعت عن استقلال المثقف عن السلطة ودوائرها، وكذلك الانتماءات الحزبية، ومؤخرا نشرت فى جريدة السفير مقالتك عن الثقافة الفلسطينية بعنوان «إنى أتهم» التى أثارت ردود فعل ظاهرة ومبطنة، كيف تنظر إلى وضع المثقفين الفلسطينيين والعرب الآن؟ ■ فى بداية إجابتى عن سؤالك أتمنى أن ننزع القداسة عن كلمة «مثقف»، فالمطلوب من المثقف مطلوب من المواطنين عموما وهو امتلاك الحق فى قول لا، والقدرة على التفكير النقدى فى شئون الكون والمعنى والبلاد والمصير. لا ينبغى وضع المثقف فى مكانة أعلى من مواطنيه. فانخراط أصحاب التخصصات المختلفة فى شئون الحياة العامة، من طلبة، وأساتذة، وأطباء، وصحفيين، واقتصاديين، ومهنيين، وأصحاب حرف، ورياضيين، وفنانين، وباحثين... إلخ، هذا الانخراط هو عمل ثقافى بامتياز وإن لم يكتبوا قصيدة أو رواية أو قصة، لكن السياق الشائع للأسف هو قصر صفة المثقف على الأدباء والفنانين دون سواهم وحتى بالنسبة لهؤلاء يظن الكثيرون أن المثقف هو كتاباته فقط، ربما كان هذا الظن صحيحا لكنى أراه ناقصا. فالمثقف تتحدد قيمته بمقاييس أخرى عديدة من بينها مثلا المسافة التى يقترحها لنفسه بعدا أو قربا من السلطة والسلطان، وهو عزلته عن الشأن العام أو انشغاله به، والمناصب التى يتورط فيها أو ينأى بنفسه عنها، وهو المنابر التى يقف عليها أو يعتذر عن ذلك، وهو البيانات التى يوقعها تأييدا او اعتراضا وهو توقيت لجوئه للصمت عن أمر ما أو الجهر بأمر ما. وهو الجوائز التى يرفضها أو يقبلها، لا يجوز أن يصدّعنا شاعر عربى بدعوات الحداثة وخلخلة التقليد وتفجير اللغة ثم يقبل الحصول على جائزة منحها له شويعر تقليدى يخطئ فى النحو ولم يسمع بشعره أحد. وليس مقبولا أن يجتمع رئيس الوزراء الفلسطينى بخمسين كاتبا فلسطينيا فى رام الله فلا يجرؤ أى منهم على طرح سؤال واحد عن الخراب السياسى الذى نعيشه وتعيشه قضية البلاد ولا يطلب أحد مراجعة الخيارات الكارثية التى أوصلتنا إلى هذه الغيبوبة السياسية، انظرى إلى هذا التدافع إلى حد التقاتل والتلهف إلى حد التوسل للحصول على جوائز حكومية، وانظرى إلى كل اتحادات الكتاب العربية عندما تعقد اجتماعها فى بلد عربى غنى وتذهلنا بمديح رئيس ذلك البلد وتخصيص حلقات نقدية تتغنى بعبقريته الأدبية والفكرية، نحن لا نريد من هذه الاتحادات أن تكون ثورية لا سمح الله لكننا نطالبها ببعض الخجل، أما النقد الأدبى وهو مكوّن مهم من مكونات ثقافات الأمم فقد لحقه من الخراب ما لا يمكن إصلاحه فى سنوات عديدة، كالكتابة بالطلب وخلط الأوراق ومساواة قامة النخلة بقامة البقدونس والانسحاق الدونىّ أمام نظريات نقدية مترجمة ترجمة بلهاء، لعجز الكثير من نقادنا عن إتقان اللغات التى يستشهدون بها، إن المثقف يعيش اختبارا يوميا لامتحان الجدارة والاحترام. كيف وجدت رواية رضوى عاشور الأخيرة «الطنطورية» التى ترصد من خلالها وجها من وجوه المأساة الفلسطينية؟ ■ «الطنطورية» هى أول رواية مصرية تتخذ من الحياة اليومية للفلسطينيين موضوعا لها من البداية للنهاية، وأرى أنها عمل فنى كبير وسوف يبقى فى ذاكرة قارئه، عالم رضوى عاشور الروائى عالم واسع شمل المجتمع المصرى والعربى والأندلسى والفلسطينى، وشمل عالمها كشخص وعالم الجامعة المصرية وعالم السياسة الداخلية المصرية واحوال الفرد المتقلبة رجلا كان أو امرأة، وشمل الرواية المستفيدة من فن السيرة الذاتية ومن أجواء التاريخ وفى كل الأحوال تكتب بلغة جذابة متقنة تخصها، «الطنطورية» عمل فنى يروى فيه أبطال متخيلون جاءوا من خيال رضوى حكايتهم على خلفية النكبة الفلسطينية وأنا وجدت متعة فى قراءتها فضلا عن أنها كأى رواية تعد وثيقة وشهادة على زمنها. كيف كان انطباعك بعد قراءتك لقصيدة تميم البرغوثى، ذائعة الصيت، «قالولى بتحب مصر قلت مش عارف»؟ ■ تميم البرغوثى كتب هذه القصيدة ممارسا حقه فى وصف علاقته مع وطن هو وطنه أيضا وأنا تعجبنى هذه القصيدة كما أعجبت الآلاف من القراء فى مصر وخارجها، إنها النقيض الفنى الجميل للتغنى الأجوف بالأوطان، لأنها تتحدث عن علاقة حقيقية لا تسقط فى سماجة الإنشاء وفراغه، إنها قصيدة كبيرة وقادرة على التأثير. يميل تميم إلى كتابة الشعر الأقرب إلى الروح الثورية الصريحة، فى حين أنك على مدى تاريخك لم تكتب الشعر المنبرى وتمسكت بالمعانى البسيطة ذات الدلالات العميقة؟ ■ كتب تميم فى واحدة من قصائده يقول لى: «ونفسى أسبقك مرّة عشان أرضيك» وأنا لا يرضينى شىء أكثر من أن أن يسبقنى ويسبق غيرى، وسيفعل، وأنا أرى أنه قادر على الكتابة فى كل أشكالها. آخر مرة سافرت فيها إلى فلسطين كان للمشاركة فى تشييع جنازة محمود درويش، فما الذى تستحضره اليوم من معانى وصور بعد رحيل هذه القامة الشعرية الرفيعة؟ ■أستحضر شخصه أساسا فهو امتلك من الصفات الإنسانية ما هو جميل وأنيق، أفتقد حدة ذكائه وخفة ظله وسخريته العالية، لقد هوى علىّ فراقه «كشرفة سقطت بكل زهورها» وأنا أقف مذهولا أمام أولئك الشعراء الذين استأسدوا فى التطاول عليه بعد وفاته، وأجد موقفهم صغيرا وغير لائق، محمود أدخل تعديلا فى استخدام العرب للغتهم شعرا ونثرا وقيمته باقية، أما خسارتى الشخصية فقد أورثتنى وجعا يعيش معى. درست فى مصر، وتزوجت منها، وأُبعدت عنها، وعدت إليها، كيف تصف هذه العلاقة؟ ■ مصر منحتنى الكثير وأخذت منى الكثير، قدمت لى بهجة الثقافة والتعليم وصداقات جميلة باقية وسببت لى أوجاعا عندما طردت منها فور أن انعطف بها السادات نحو إسرائيل والغرب فى السياسة ونحو الانفتاح المرتجل قى الاقتصاد، لقد عشت خلال سنوات عمرى مصرين لا مصر واحدة، وأنا ابن مصر المنخرطة إيجابيا فى شئون محيطها، كل مواطن عربى (فى دول الجوار المصرى على الأقل) معنىّ بمصر لأن نوع حياته وموته وأمله ويأسه مرتبط بسياساتها، إن السياسة العربية كلها تمرض إذا مرضت مصر وتتعافى إذا عوفيت. ما هو جديدك، هل ننتظر ديوان شعر جديدا أو كتابا نثريا؟ ■ أنا مقل فى الكتابة لأننى أكتب بالممحاة ولا أثق فى جودة ما أكتب، أمزق وأشطب أكثر مما أكتب وأنشر، أنا الآن أمزق ديوانى القادم قبل أن أنشر الصفحات التى سوف تنجو من التمزيق.