«إسرائيل وافقت على أن المربى والحلاوة تدخل القطاع وبتفكر تسمح بالبقدونس والكزبرة». يضحك حمزة كاسكين ساخرا من البضائع التى تمنعها إسرائيل عن القطاع لأسباب أمنية. «عظيم إن الكزبرة مش خطر على الإسرائيلية». يسند حمزة قدمه الحافية على السور المطل على شاطئ غزة تاركا قدمه الأخرى تستند على حذائه الصيفى. «بيتنا مش بزيادة»، يشرح الموظف فى التأمينات والمعاشات، «يعنى البيت كتمه، مخنوق». الرجل الخمسينى يسكن فى معسكر أو مخيم الشاطئ، أحد مخيمات غزة الثمانية. جاره على بعد 4 منازل «أبوالعبد»، هكذا ينادى الفلسطينيون رئيس الوزراء إسماعيل هنية. البحر متنفسه الوحيد. كرسى بلاستيك، كنكة شاى وكوب. منذ أن بدأ الحصار يعبر حمزة الطريق يوميا من منزله إلى الكورنيش ليجلس من الساعة 6 مساء يلتقط «نسمة هوا»، يستقبل أصحابه ويتحدثون عن «الوضع السيئ». «اليهود افتروا وإحنا العرب خلينا لهم قيمة. لو أروح على إسرائيل بعصايا والله أمَشى الجيش الإسرائيلى زى الغنم»، يقول حمزة وهو يرتشف من كوب الشاى الصغير. قبل 14 عاما كان حمزة يعمل فى إسرائيل يبيع الخضار والفاكهة، ثم تحول إلى موظف بعد حرب الخليج بقليل. «خربت بعد الحرب. كان الفلسطينيون يغنون: يا صدام يا حبيب اضرب اضرب تل أبيب»، من يومها بدأت السلطات الإسرائيلية تمنع الفلسطينيين من الدخول إلى أراضيها وتطلب تصاريح. ثم قامت الانتفاضة و«قامت الدنيا. كل واحد رمى حاله على تنظيم. إشى جهاد وإشى فتح وإشى حماس». قصف وصواريخ وإضرابات وحواجز، يشكو حمزة مما آلت إليه الأمور اليوم فى غزة. «الحصار عمل بلاوى. لا عمال بتطلع ولا معابر فاتحه ولا فلوس بتوصل. لولا الأنفاق لكانت غزة دمار». أكثر من 1000 يوم من الحصار «دمرت حياة الناس» فى غزة بتعبير الفاو، «وتعيق التعافى» من الخسائر التى بلغت 268 مليون دولار أمريكى نتيجة للعملية العسكرية الإسرائيلية «الرصاص المصبوب» العام الماضى. تقول منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة إنه فى الأشهر الستة الأولى التى أعقبت الحرب الإسرائيلية على غزة لم يسمح بدخول أى مواد زراعية تقريبا إلى غزة، أما حاليا فإن الواردات الممنوعة تشمل الأبقار والدواجن وأنابيب المياه والمضخات والأسمنت، وتصل إلى الكتب والجرائد والورق الأبيض والخل والشيكولاتة والبسكويت والكمون والحمير. وبحسب المنظمة فإن البضائع القادمة من مصر عبر الأنفاق «تباع بأسعار مبالغ فيها لا يمكن لغالبية الفلسطينيين الحصول عليها». منذ أن استلمت منظمة التحرير السلطة فى غزة وحتى 2002 سافر حمزة إلى مصر 12 مرة، مرات للزيارة ومرات للعلاج، آخرها كان لمستشفى فلسطين فى مصر الجديدة لإجراء عمليات جراحية لحصوات الكلى. «وقت أبوعمار كانت التحويلات أسهل. اليوم لازم تحويلة للحكومة. الطبيب فى مستشفى الشفا يبعتها بالفاكس على رام الله وهناك يقولون يحول أو لا يحول». حتى هذا الفاكس أو الطلب أصبح من المهام الصعبة. «فى المستشفى نصف فتح ونصف حماس وده خايف وده خايف». يعتقد حمزة أن سيطرة حماس على القطاع «كانت غلط». يسوى شاربه الكثيف ويقول «لو بدهم كانوا قالوا يا شباب بدنا نحرركم من الفساد مش هيك». «عليكم السلام»، يحيى حمزة أحد المارة، يشير إليه «اسمه رزق، كان عقيدا فى السلطة وشاف الويل بعد الانقلاب. كل الصغار اللى عملوا انقلاب فى غزة مهمشين اليوم». يقترب أحد رجال الأمن بالزى الأسود، «ممنوع التصوير فى المربع الأمنى»، ثم يعود إلى مقعده المطل على شاطئ البحر. «وقت الحرب كنت خايف يقصفوا بيت أبوالعبد هنية. كانت F-16 يقربوا ويعملوا عملية تخويف. الطخ كان يهز المنطقة»، تنقل حمزة ثلاث مرات أثناء الحرب إلى بيوت إخوته خوفا من القصف قبل أن يعود إلى مخيم الشاطئ. اليوم يوزع إسماعيل هنية على جيرانه من سكان المربع الأمنى كوبونات سكر ودقيق وأحيانا برطمانات عسل. «الراتب ما بيكفى. أنا باتقاضى 1400 شيكل نصفها دين للدكاكين». وبحسب الإحصائيات الدولية فإن أكثر من 60% من سكان قطاع غزة هم من «منعدمى الأمن الغذائى ويعتمدون على المساعدات الغذائية المقدمة من الوكالات الإنسانية». كل 3 أشهر يحصل حمزة وزوجته وأبناؤهم الستة على 32 كيلوجراما من الدقيق و15 كيلوجراما من السكر ومثلها من الأرز تقدمها الأونروا. تقطع كلاكسات الفرح الصادرة من السيارات والمتوسكيلات هدوء الشارع. «الناس بتقولى جوز ابنك، أضحك وأقول على الأربعين». رامى ابن حمزة الأكبر يبلغ من العمر 23 عاما، درس الكمبيوتر بالجامعة، لكنه عاطل عن العمل. «منين أجوزه؟ بدى ابنى مفيش حديد ولا أسمنت. إذا الدول العربية بتظل هيك، مفيش تغيير». يتهم حمزة الدول العربية قبل إسرائيل بالوقوف وراء الحصار. «كيف مبارك طلع قرار بفتح المعبر؟ معناه إن فى إيده وحده فتح المعبر، ليه اتأخر؟». لا يتفاءل حمزة كثيرا ولا ينتظر شيئا كما يقول، بل لا يفكر فى الغد. «تفكر، تزعل» هذه حكمته الخاصة التى تعينه على الحياة فى غزة.