يبدو أن أمريكا تتغير بالفعل مع أوباما، وأن الأمريكيين راغبون في الإيمان بأن بلدهم سيتغير معه على نحو جذري، كان ذلك هو الشعور الأقوى الذي حملته إلى سلسلة من المشاهد والحوارات أثناء زيارتي الحالية لواشنطن. هي زيارتي الأولى للعاصمة الأمريكية وساكن بيتها الأبيض هو الرئيس أوباما وإدارته ضالعة في الوصول إلى توافق مع مجلسي الكونجرس (النواب والشيوخ) حول حزمة تشريعات يراد منها إنعاش الاقتصاد الأمريكي وإخراجه من أزمته، وكذلك في استكمال تعييناتها للمواقع القيادية في الوزارات المختلفة ضماناً لانتظام دولاب العمل السياسي والتنفيذي. شعبياً، أبرز ما لفت انتباهي في واشنطن هو حالة التفاؤل العامة بوجود أوباما كرئيس والثقة الكبيرة في قدرته على تغيير أوضاع المجتمع الأمريكي إلى الأفضل. في المطار الدولي الأساسي بالعاصمة (مطار دالاس) باغتني ضابط الجوازات وعلى غير العادة بسؤال مباشر "كيف ترى رئيسنا الجديد؟ هل يشاطرنا العالم سعادتنا بأوباما؟". لم ينتظر الرجل (وهو من اسم عائلته ومن لكنته من أصول أمريكية لاتينية) إفادتي، بل تابع بتأكيد على أن فترة بوش السوداء قد انتهت وأن الأوضاع الاقتصادية ستتحسن سريعاً. ثم تكرر ذات الجوهر في أحاديثي مع معظم من التقيت خارج سياقات عملي في مؤسسة كارنيجي وبعيداً عن التزاماتي المهنية، تفاؤل وثقة في أن أمريكا على طريق العودة إلى سابق رخاءها قبل الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة. لم يهتم محدثيي كثيراً بحقيقة استمرار تراجع مؤشرات الاقتصاد الأمريكي، وبصفة خاصة مؤشر البطالة الذي تجاوز للمرة الأولى منذ الثمانينيات نسبة 7% وسلبية التوقعات حول العامين القادمين. لم يعنيهم غياب الوجهة الإستراتيجية الواضحة عن خطوات البداية التي قامت بها إدارة أوباما للتعامل مع الملفات الاقتصادية ومساعيها لإرضاء الحزب الديمقراطي بزيادة الإنفاق العام والجمهوريين بتخفيض السقف الضريبي على تناقض الهدفين. بل لم يشغلهم طويلاً حديث الرئيس الجديد الصريح عن عمق الأزمة وحتمية أن يتحمل المواطنين الأمريكيين مسئولياتهم في مثل هذه الأوقات الصعبة، فالتوقع الشعبي السائد هو أن أوباما يملك بلا ريب حلولاً ناجعةً وأن تطبيقها آت دون تأخير. رفعت حملة أوباما الانتخابية شعار "نعم... نستطيع" لتحفيز وإقناع المواطنين الأمريكيين وبه حسمت الانتخابات لصالحها، واليوم يرفع المواطنون ذات الشعار مع تعديل بسيط باتجاه الرئيس "نعم... تستطيع"! كان لي خلال تواجدي بواشنطن عدد من الحوارات مع مسئولين في وزارة الخارجية ومساعدين لنواب وشيوخ في الكونجرس وباحثين وخبراء يعملون في مؤسسات أكاديمية ومراكز للعقول يجمعني بهم الاهتمام بالسياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. اختلفت القضايا وتباينت محاور النقاش، من تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة، مروراً بتنامي وزن القوى الراديكالية في المنطقة، وانتهاءاً بأجندة 2009 السياسية الحافلة بالانتخابات والتوقعات بشأنها. والغريب أن هذه العينة الممثلة للمطبخ السياسي المتابع للشرق الأوسط في واشنطن، وشخوصها أناس مدربون على توخي الموضوعية والابتعاد عن الإفراط في التفاؤل أو التشاؤم، عزفت على نفس أوتار من التقيتهم خارج السياقات المهنية لجهة التأكيد على الثقة الكاملة في قدرات أوباما كرئيس وآمال التغيير الكبرى في السياسة الخارجية الأمريكية التي يعلقها الجميع على عاتقه. عن العراق وإيران سألت، قيل لي سننسحب سريعاً من الأولى وننفتح تفاوضياً على الثانية لحل جميع المشاكل العالقة ومن بينها الملف النووي الإيراني (بالفعل، ثمة معلومات تتردد في واشنطن عن جولات جارية لمفاوضات بين الأمريكيين والإيرانيين تعقد منذ أسابيع في واحدة من العواصم الأوروبية). تحدثت مع من حاورتهم عن الدور المتوقع للإدارة الجديدة فيما خص الصراع العربي-الإسرائيلي، وفي موقع القلب منه القضية الفلسطينية، فجزمت الأغلبية بأن أوباما عازم على الوصول إلى تسوية تفاوضية وفقاً لحل الدولتين بين إسرائيل والفلسطينيين، وكذلك على المسار السوري-الإسرائيلي، ولن تحول لا حكومة يمينية إسرائيلية ولا استمرارية الصراع الفلسطيني-الفلسطيني بين السلطة وحماس أو المطالب السورية المتصاعدة بينه وبين إنجاز هذه الأهداف. وأكمل البعض قائمة الإنجازات المنتظرة بالتشديد على أن الدفع نحو الديمقراطية والانفتاح السياسي في الدول العربية وصياغة علاقة إيجابية مع شعوب العالم الإسلامي سيتحولا مع الرئيس ذي الأصول الأفريقية، والذي أمضى بعضاً من حياته في إندونيسيا المسلمة، إلى أولويتين حقيقيتين للولايات المتحدة تتجاوز أهميتهما سابق ما عهدناه مع إدارة بوش. لم تلق شكوكي حول مدى جدية مثل هذه الطروحات الوردية تجاوب يذكر وهمشت دون تردد تحفظاتي النابعة من صعوبة الأوضاع الإقليمية في الشرق الأوسط ومحدودية الوقت والجهد المتوفر عليه أوباما لتحريك كل هذه الملفات في ظل أزمة اقتصادية ومالية خانقة بإشارات إلى كاريزما الرجل وقدراته وطاقات فريق السياسة الخارجية المحيط به. نعم... الرئيس يستطيع! الأمريكيون متفائلون جماعياً برئيسهم وواثقون مبدئياً من رجاحة قراراته وخطواته في مجالات السياسة الداخلية والخارجية المختلفة، ومن ثم لا حدود لتوقعاتهم الإيجابية حول الأعوام القادمة. أسرت كاريزما أوباما الجموع الكبيرة التي خرجت لحضور حفل تنصيبه ومئات الملايين من ورائهم، بينما أعاد لهم شعار التغيير الأمل في غد أفضل والإيمان بحتمية قدومه. هي إذاً وبعد كارثية فترة بوش لحظة استثنائية بامتياز تلك التي تمر بها الولاياتالمتحدة مع الرئيس أوباما ومضامينها الخلاصية لا سبيل إلى إنكارها. وعلى الرغم من جمال اللحظة وبهجة المشاهد والحوارات المحيطة بها ودفئها الإنساني، إلا أن المأساة هنا تتمثل في كونها ترتب مجتمعة تعطيل مقومات النظر العقلاني في الشئون العامة ومن ثم تذهب أدراج الرياح بالتمييز الضروري في السياسة بين الممكن والمأمول، بين الواقع والحلم. ليست الأزمة الاقتصادية وتداعياتها السلبية على المواطنين الأمريكيين على سبيل المثال وبغض النظر عن قرارات وخطوات إدارة أوباما في سبيلها إلى علاج سريع، وكذلك يكون من باب الإمعان في تهميش الواقع السياسي في الشرق الأوسط افتراض أنه سيصل إلى تسويات سلمية للصراعات الدائرة في القريب العاجل. لذا فأن استعادة القدرة على التمييز بين الواقع والحلم وبالتبعية خفض سقف توقعات الأمريكيين تجاه الإدارة الجديدة، سيشكلان على ما يبدو تحدياً إضافية أمام رئيس سيصبح قريباً في أمس الحاجة إلى رفع شعار "لا... الرئيس لا يستطيع دوماً".