إذا تم انتخابك رئيسا للجمهورية أو رئيسا للوزراء فى أى بلد من بلدان العالم المتقدم اليوم، سوف تواجهك المجموعة نفسها من التحديات: تخفيض مستوى العجز القومى دون خنق الانتعاش الاقتصادى الهش، وتقليص دولة الرفاه الاجتماعى وزيادة الضرائب مع مواصلة تمويل الأمور التى تؤدى إلى نمو طويل الأجل، ومحاولة فرض تدابير مؤلمة على نحو قاس فى وقت لا يثق فيه الناخبون بقادتهم؛ وأداء ذلك بينما تشهد السياسة استقطابا ويمتلك عدد كبير من جماعات المصالح المختلفة القدرة على تعطيل التغيير. وتتراوح احتمالات قدرة قادة العالم على أداء هذه الأمور بنجاح بين الضئيلة والمعدومة. فمن الصعب إلى حد كبير معرفة درجة المزج الصحيحة بين تخفيض الإنفاق وزيادة الضرائب. ويكاد يكون من المستحيل تشكيل أغلبية سياسية مستعدة للقيام بهذا المزج. وفى وقت ما من العقد المقبل، ربما يعانى العالم سلسلة جديدة من الأزمات المالية الساحقة المصحوبة بألم اقتصادى كبير واضطراب اقتصادى بالغ. ولكن أحيانا يكون هناك شعاع من أمل. إذ يصادف بلد ترتيبا سياسيا قد يساعد فى تفادى أزمة. وهذا ما حدث فى بريطانيا. فلدى بريطانيا المشكلات المالية جميع التى تزعج معظم الدول المتقدمة. حيث تعانى الأسر البريطانية ديونا أكثر مما تتحمله الأسر فى أى بلد غنى آخر بنسبة 170 فى المائة من الدخل السنوى. والدين العام البريطانى آخذ فى الارتفاع ليس بمستويات ارتفاع الدين اليونانى بعد، لكنه يقترب منها. وتتسم الثقافة السياسية بعدائية قاسية. كما أن مظاهر التطرف السياسى قوية. ولم يفز حزب المحافظين فى انتخابات هذا الشهر فوزا واضحا، لأن خمسة فى المائة من الناخبين فضلوا الأحزاب المعادية للمهاجرين. علاوة على ذلك فإن الانتخابات لم تسفر عن نتيجة حاسمة. ويبدو أن ذلك سوف يزيد صعوبة إحداث نوع من التغييرات المؤلمة الضرورية. غير أنه على مدى الأيام القليلة الماضية، توصل العديد من المحللين البريطانيين إلى استنتاج أن أمرا جيدا ربما يكون قد وقع. فقد اضطر ديفيد كاميرون، زعيم المحافظين إلى مواجهة حقيقة أنه حتى فى أفضل الظروف الممكنة، لايمكن للمحافظين الحصول إلا على 36 فى المائة فقط من الأصوات. وواجهه احتمال أن الحزبين الآخرين ربما يشكلان تحالفا دائما مناهضا لليمين. ولكن كما أشار دانييل فينكلستاين من صحيفة التايمز اللندنية، فقد وضع كاميرون يده على المشكلة وحولها إلى مكسب. فبنى تحالف اليمين الوسط عبر إبرامه صفقة مع الديمقراطيين الأحرار. وبذلك أحدث تغييرا فى طبيعة حزبه، وفى طبيعة الديمقراطيين الأحرار، الحزب الشريك له. ولو حقق فوزا بأغلبية صغيرة، كان سيصبح رهينة لأكثر أعضاء حزبه تشددا من الناحية الأيديولوجية. وبهذا الوضع، ربما يكون قد أضعف الأنصار الأقوياء لكل من الحزبين، ودعم البراجماتيين الأكثر ملاءمة لسياسة الائتلاف، وخلق مناخ سياسى أقل استقطابا. وكتب ماثيو باريس من صحيفة التايمز أيضا، أن مشاهدة كاميرون ونيك كليج زعيم الليبراليين الأحرار «كانت أشبه بمشاهدة انقلاب. ولعل ملايين المشاهدين شاركونى انطباعى تقريبأ عن رؤية رجلين ينظمان انقلابا ضد حزبيهما، وضد النظام السياسى البريطانى بكامله، وضد الافتراضات المتأصلة منذ أكثر من قرن عن الحكومة البرلمانية». ويرى باريس احتمال تخفيف الثقافة العدائية المعتادة، وتعزيز نمط الزعيم الذى يحب الحلول الوسط وإضعاف النوع الذى يكرهها. ويتبنى الحزبان الآن نهجا اقتصاديا محافظا واجتماعيا متحررا يأملان أن يستمر خمس سنوات. ويختلف الحزبان حول العديد من الأمور (الهجرة، وأوروبا، والإصلاح الانتخابى)، ولكنهما يميلان إلى الاتفاق على الحاجة لوضع قيود مالية. وسوف تتعزز جهود السيطرة على المديونية بوجود تحالف واسع خلفها. وسوف يتشارك الجميع فى الألم السياسى. وأمام كاميرون الفرصة لأن يظهر باعتباره زعيما قوميأ أكثر من كونه زعبمأ حزبيا. وسوف يجبر ائتلاف اليوم المحافظين على صياغة السياسات بطرق جديدة، وتقريبها إلى جمهور الناخبين. ويساعد على ذلك أن حكومة المحافظين انتقلت بالفعل إلى فلسفة حكم أكثر مجتمعية «تتعلق بالمجتمع الكبير». فلم تعد السوق حرة تماما، كما يؤكد المحافظون على إعادة بناء الروابط الاجتماعية. وهو ما يعنى أنهم يتحدثون عن تحسين أداء الحكومة ولامركزية السلطة بأكثر مما يتحدثون عن اعتبار تخفيض حجم الحكومة مسألة مبدأ.ويشتمل هذا النهج على تفاوتات يمينية ويسارية، كما يحمل امكانية تحطيم الأيديولوجيات القديمة. وبطبيعة الحال، من الممكن أن يفشل هذا كله. فمن الممكن أن يرفض الحزبان عملية زرع التغيير الجديد. وبتعبيرات أمريكية، فهذا يماثل التزاوج بين ماركو روبيو (قاعدة المحافظين) والحكمة المتراكمة لرابطة أيفى (قاعدة الديمقراطيين الأحرار). ولكن كاميرون وكليج شخصان مرنان بالدرجة الأولى. كما تتفهم الطبقة السياسية برمتها ما الذى ينبغى فعله. وسوف تصر الأسواق المالية على فرض بعض قيود الموازنة الجادة. بدون أى تخطيط، وبمجرد حسن الحظ، ربما يكون البريطانيون قد صادفوا ترتيبا سوف يكون نموذجأ يحتذى لجميع البلدان الأخرى التى تمر بالمسارات العصيبة نفسها.