قد يكون فيلم «Copie Conforme» (أو نسخة طبق الأصل) واحدا من أكثر الأفلام التى اختلف عليها وعلى مستواها متابعو الدورة الحالية لمهرجان «كان» حتى الآن. فالبعض وقع فى غرام هذا العمل واعتبره تحفة فنية والبعض الآخر كان لا يتوقف عن الضجر والتأفف أثناء مشاهدته. الغريب أن هناك فريقا ثالثا خرج من الفيلم غير راضٍ عنه ولكن مع عودتهم للمنزل وجدوا أنفسهم فى حالة انتشاء جراء مشاهدته وشعروا حينها بمدى جماله وعذوبته. نحن إذا أمام عمل مختلف بلا شك. «Copie Conforme» هو أحدث أفلام المخرج الإيرانى الكبير «عباس كياروستامى» وينتمى لنوعية الأفلام التى يغلب فيها الحوار على الأحداث حيث إنه مبنى على ديالوج طويل بين سيدة فرنسية فى منتصف الأربعينيات من عمرها (جولييت بينوش) تمتلك محلا للأنتيكات وبين كاتب بريطانى قادم لتقديم وتوقيع أحدث كتبه (الذى يحمل نفس اسم الفيلم ويناقش الفارق بين قيمة الشىء الأصلى وقيمة النسخة من هذا الشىء). هو إذا تحدى كبير أو ربما لعبة مجنونة يلعبها المخرج الإيرانى معنا كمشاهدين محاولا جذب انتباهنا وعدم إصابتنا بملل قد يشتتنا عن متابعة مراحل تطور العلاقة بين هذين الشخصين. اختيار مكان الأحداث فى هذه النوعية من الأفلام مهم جدا للدور الذى تلعبه المناظر والطبيعة المحيطة بالبطلين فى القضاء على أى فرصة للملل من كثرة الكلام كوسيلة أقوى لتوصيل رسالة المخرج بدلا من الاسترسال فى المزيد من الحوار المطول. وحسنا فعل «كياروستامى» باختيار إيطاليا لتكون مكان هذا اللقاء بين بطلى الفيلم بما تملكه من مناظر طبيعية متفردة وما تضمه من تراث ثقافى غنى يتناسب مع شخصيتى أبطال العمل. وقد علق «كياروستامى» خلال المؤتمر الصحفى الذى تلا العرض على اختياره هذا بقوله «إن إيطاليا لا تعتبر مجرد مكان فى الفيلم، بل هى شخصية رئيسية لا تقل أهمية عن البطلين»، مضيفا أن «تصوير الفيلم كان يمكن أن يتم فى أى مكان آخر، ولكنه كان سيجعل منه عملا أقل جودة». ولكن الأهم من موقع الأحداث هو بلا شك جودة وذكاء الحوار بين شخصيات العمل. النصف ساعة الأولى من الفيلم حملت حوارا ممتعا للغاية أوصل للمشاهدين رسالة مفادها أن تلك السيدة الهاوية للأدب (بينوش) التى ظهرت فى حفل توقيع الأديب لكتابه وطلبت منه موعدا للالتقاء به ثم قررت أن تصحبه فى جولة بمعالم المدينة قبل حلول موعد القطار الذى سيقله إلى بلده ليست فقط أحد المعجبات بأعماله الأدبية ولكنها أيضا مغرمة به. غرام لا يؤثر عليه الاختلاف الكبير بين منظور كل منهما للحياة الذى يتضح تدريجيا من الحوار المشوق الذى يجرى بينهما فى الطريق من أتيليه هذه السيدة إلى أحد المزارات الإيطالية المشهورة محليا بأن من يتزوج بها يقضى حياة زوجية سعيدة. جمال الحوار يولد من ذكاء الجمل والتشبيهات التى استخدمها كل منهما فى شرح نظريته الحياتية، فهو مؤمن بأهمية الأثر الذى تتركه الأشياء على النفس الإنسانية ويميل أكثر إلى البساطة والعفوية فى الحياة من ثم فهو ليس من المفتونين بالأشياء الأصلية ويرى أن النسخ تملك نفس قيمة الأصول مادام أثرها على النفس البشرية واحدا. بينما هى أكثر عملية وترى قيمة الأشياء فى أصالتها وفرادتها. وفى لحظة ودون سابق إنذار يغير دفة الحوار وتتبدل صيغة النقاش بين الرفيقين آخذة منحى جديدا تماما. فبعد أن كانا يتحدثان عن الرجال والنساء كشخص ثالث مجهول أصبح الحوار به الكثير من «أنتِ» و«أنتَ» مع تبادل مستمر للاتهامات لنفهم من هنا أن الرجل الذى ذكرته «بينوش» عدة مرات فى سياق حديثها مع رفيقها الأديب محملة إياه مسئولية الانفصال الذى حدث بينهما ومسئولية الطفل الذى نتج عن هذه العلاقة وأصبحت هى وحدها الراعية له، ليس سوى نفس هذا الكاتب الذى أمامنا منذ بداية الفيلم. يبدأ من هنا حالة من التشوش والحيرة التى تصيب المشاهدين فكل فترة يطرأ على البال تساؤل متكرر ما إذا كان البطلان بالفعل زوجين منفصلين أم أنهما فقط فى إطار السجال الدائر بينهما يدعيان تلك العلاقة ويلعبان بنا نحن المشاهدين. هى حيرة ممتعة ولكن يعيبها أولا ضعف الإعداد لها (حيث إن حديث البطلين لمدة ليست بالقصيرة كان يشير إلى أنهما لا سابق معرفة أبدا بينهما) وثانيا أنها أخرجتنا كمشاهدين من التركيز فى جمال الحوار الدائر. إلا أن أداء «بينوش» وتعبيرات وجهها العبقرية كانت تلحق المشاهدين قبل وصولهم إلى حافة الملل. فقد جسدت «بينوش» فى الساعة الأخيرة للفيلم مشاعر كل امرأة فى العالم من ضعف مستتر وحاجة إلى رجل يفهمها تخرج له هذا الضعف وتتقاسم معه أحلامها البسيطة. الدور وصفه الكثير بأنه أفضل الأدوار التى لعبتها «بينوش» طوال تاريخها الفنى. وقد عبرت هى نفسها خلال المؤتمر الصحفى عن سعادتها الشديدة لتجسيد هذا الدور ولتحقق حلمها بلعب بطولة فيلم من إخراج «كياروستامى» مشيرة إلى أنها لم تتخيل أن يستطيع مخرج قادم من بلد مثل إيران أن يقدم هذه الصورة الصادقة جدا عن النساء من خلال فيلم يعلى من شأنها ويعطيها قيمتها الحقيقية. من الأصل ومن الصورة؟ اللافت للنظر أن فيلم «كياروستامى» به الكثير من فيلم آخر نال صيتا واسعا هو «Before Sunset» (أو قبل غروب الشمس) للممثلة الفرنسية «جولى ديلبى» والأمريكى «إيثان هاوك» والشبه ليس فقط فى بناء الفيلمين اللذين يقومان على حوار بين رجل وامرأة منذ بدايتهما لنهايتهما ولكن الغريب أن البطل الذكورى فى العملين يلعب دور كاتب يسافر لبلد آخر لتقديم آخر أعماله الأدبية ويلتقى هناك بحبيبته (أو طليقته) التى لم يلتقيها منذ زمن، إضافة إلى أن البطل فى الفيلمين من متحدثى الإنجليزية بينما البطلة تتحدث الفرنسية.. تشابه قد كان من الأفضل لمخرج بخبرة «كياروستامى» أن يتلافاه حتى وإن اختلف المنطلق الذى يعالج به كل فيلم فكرته الرئيسية.