سادت المشاعر الطيبة، وتولى الرابحون الحكم، وهناك قدر من مرونة الدولة متعددة الأطياف لدى بريطانيا التى يبدو أنها محصنة فى الوقت الراهن ضد مواجهة أزمات على النمط اليونانى. دعونا نواجه الأمر. فعقب فترة من سيطرة المسنين، أصبح الشباب هم الدواء المنشط. ويوجد لدى كل من ديفيد كاميرون ونيك كليج وكلاهما فى الثالثة والأربعين من عمرهما هذا الدواء. ويعتبر كل شىء فى كاميرون وكليج جديدا بكل المعانى، حيث يتربعان على قمة أول حكومة ائتلافية بريطانية منذ أن دعا تشرشل بريطانيا إلى حمل السلاح قبل سبعة عقود. لكن اليوم أصبح الاقتصاد هو المعركة. وكان فحوى الرسالة الواضحة التى بعثت بها النتائج غير الحاسمة للانتخابات هو أن بريطانيا تطالب بالتغيير. فقد شعر الناس بالغضب إزاء انهيار البنوك وفضائح الإنفاق والركود العنيف وتصاعد الديون الشخصية. ولم تكن المشكلة أن جوردون براون زعيم حزب العمال كان رجلا سيئا، بل كان مجرد رجل مجهَد يترأس حزبا منهَكا، ولديه نزوع مأساوى. وتعتبر السياسة فى الأساس مسألة تتعلق بالتوقيت. وقد ظل براون وقتا أطول من اللازم يعيش فى عباءة تونى بلير، مما أضاع منه لحظته التاريخية. وسوف يسجل التاريخ أنه قاد البلاد من دون أن يحصل قط على تفويض الشعب وهو ما يعتبر إرثا ثقيلا. واختتم براون خطاب الوداع الرقيق الذى أدلى به بقوله: «أشكركم ووداعا». ولم تستطع هذه النهاية المقتضبة أن تخفى تماما المرارة التى كان يشعر بها. ولا تماثل هذه العبارة بالضبط تلك التى كان يرددها إدوارد مارو، المراسل فى الحرب العالمية الثانية «تصبحون على خير وحظا سعيدا»، لكنها مع ذلك تتشابه معها. ماذا عن الوضع الآن؟ أعتقد أن كاميرون كان محقا عندما سار على خطى أوباما وأدرج كلمة «المسئولية» فى جميع البيانات التى أصدرها عقب الانتخابات. وكشأن أوباما فى عام 2009، تولى كاميرون أمر دولة مأزومة ومرتبكة. وبعدما أدرك البريطانيون فاتورة العقد السابق، وتعلموا من أوهام أيسلندا، واستوعبوا مدى جنون أسلوب الإنفاق من جانب حى المال فى لندن ومن جانب ممثلى الشعب، أصبحوا مستعدين لتلقى جرعة من الشفافية والمحاسبة، أو على الأقل يعتقدون ذلك فى أنفسهم. وبالقطع كانت سرعة تشكيل الحكومة الائتلافية اختبارا فى المسئولية. ولم يكن من السهل على كليج ذى الميل الأوروبى القوى، والزوجة الإسبانية والأولاد الذين يحملون أسماء أنطونيو وألبرتو وميجيل أن يوافق على صيغة متخمة بشكوك حزب المحافظين إزاء الاتحاد الأوروبى، صيغة تنص على أنه «لا يجب نقل المزيد من السيادة أو السلطات إلى الاتحاد الأوروبى خلال فترة البرلمان المقبل». كما أنه لم يكن من السهل على كاميرون أن يوافق على استفتاء حول الإصلاح الانتخابى الذى قد يضر حزب المحافظين الذى يترأسه، أو على تخفيض الضرائب المفروضة على ذوى الدخل المحدود بدلا من الأثرياء من زملائه فى الدراسة، أو على حل وسط يتسم بالارتباك فيما يخص الطاقة النووية، وهو ما يعكس النزوع إلى الاهتمام بالحاجات الأساسية والميل العاطفى من جانب حزب الأحرار الديمقراطيين الذى يترأسه كليج، ذلك الحزب الذى ظل وقتا طويلا يتمتع بحرية الحلم، لأنه لم يكن فى الحكم. ومع ذلك، فقد توصلا بسرعة إلى اتفاق كان القسم الأفضل منه مُكرسا للحريات المدنية حيث تم إلغاء مشروع بطاقات الهوية الذى وضعه حزب العمال، وجرى التعهد بالحد من كاميرات المراقبة المنتشرة التى تهدد بإعادة بريطانيا إلى عصر الاتحاد السوفييتى. والآن يجب على كل قائد أن يستسلم ويرضخ للانحرافات الحتمية، من جانب اليمين فى حالة كاميرون، ومن جانب اليسار فى حالة كليج. وربما يكون ردهما على الاتهامات بالانتهازية والتنازل عن المبادئ هو الكفاءة. وهكذا ينبغى أن تركز العقول. ويعجبنى التوازن الذى تتسم به الحكومة، خصوصا تولى فينس كابل مسئولية الإشراف على الشركات والبنوك. وبينما يعد الشباب صفة جيدة، فإن كابل الذى يكبر كليج وكاميرون بعشرين عاما يقدم جرعة من الحكمة المرتكزة إلى النزعة العملية. وقد كان كابل هو من سأل براون قبل سبع سنوات: ألن يؤدى «الإنفاق الاستهلاكى المرتبط بتصاعد الديون الشخصية إلى مستويات قياسية» إلى كارثة اقتصادية وقد جرى تجاهل هذا السؤال. يواجه كل من كابل ووزير الخزانة المنتمى إلى حزب المحافظين جورج أوزبورن تحديا كبيرا، حيث إن الاتفاق يُلزِم الحكومة الائتلافية بإقرار موازنة طوارئ تقوم على الحد من العجز فى غضون 50 يوما حتى فى الوقت الذى تقر فيه الحكومة بهشاشة التعافى الاقتصادى. ويمثل ذلك توازنا صعبا. كما يدعو الاتفاق إلى «اتخاذ إجراءات حازمة من أجل التعامل مع الحوافز غير المقبولة التى يتلقاها العاملون فى قطاع الخدمات التمويلية»، ويطرح إمكانية الفصل بين بنوك الاستثمار وبنوك التجزئة وهو إجراء سوف يلقى مقاومة حى الأعمال فى لندن، حيث تتجاوز بريطانيا الولاياتالمتحدة فى الاعتماد على قطاع التمويل الضخم لديها. ولا تبدو الأرقام فى بريطانيا أفضل كثيرا منها فى اليونان، حيث تبلغ نسبة عجز الموازنة إلى إجمالى الناتج المحلى هناك 11.5%، فى مقابل 13.6 فى اليونان. لكن بريطانيا لديها قدر أكبر من المرونة، نتيجة وقوعها خارج منطقة اليورو. كما أنها قد سمحت بالفعل بتخفيض عملتها بحدة من أجل استعادة قدرتها التنافسية، ويُعد أَجَل استحقاق الديون لديها أطول من نظيره فى اليونان. بالإضافة إلى ذلك، فإن المملكة المتحدة ليست اليونان. ومع ذلك، فسوف يتعين على كاميرون وكليج قيادة البلاد فى وقت عصيب للغاية. وكما أدرك تشرشل، تقع بريطانيا فى أوروبا، سواء شاءت ذلك أم أبت. ولن تكون بريطانيا محصنة ضد هموم دول جنوب أوروبا. وسوف ترتفع أسعار الفائدة فى بريطانيا. وعندما يحين وقت سداد ملايين الأفراد لقروض الرهن العقارى التى عليهم، فسوف تنشأ حالة من الغضب. غير أن الحكومة لا تختص فقط بالأرقام. فعندما تولى بلير الحكم قبل 13 عاما، أنقذ بريطانيا من الإفراط فى التركيز على الداخل. وبينما يتمتع كاميرون بالمواهب نفسها فيما يخص الحيوية، فإن لديه قدرة على الاستماع للآخرين وغريزة السعى إلى الحلول الوسط تفوقان ما كان لدى بلير. ولعل الوضع الأفضل هو أن يكمل كاميرون وكليج بعضهما البعض، لأن أوروبا لا تستطيع تحمل وجود بريطانيا تسيطر عليها انحيازات المحافظين. ولا تذبذبات الأحرار الديمقراطيين. ومن ثم، فهذا هو التجديد فى روح عيادة الخصوبة فى داوننج ستريت، وهو ما يمهد إلى اندفاع كاميرون آخر نحو معركة سياسية لا يمكن توقع نتائجها. نيويورك تايمز