لن يكون مصدر الاضطرابات السياسية والاجتماعية الأكثر احتمالا فى الشرق الأوسط خلال العشرين عاما المقبلة هو الحرب أو الانقلابات العسكرية بل المياه. إذ تستحوذ التهديدات العسكرية على متابعات كل الصحف، بينما تمثل المياه عنصر التغيير الحقيقى فى اللعبة. لا يخفى على أحد أن الشرق الأوسط متعطش للمياه. إذ توجد عشر دول فى الشرق الأوسط من بين الخمس عشرة دولة الأكثر افتقارا إلى المياه فى العالم. وعندما استقدم الملك عبدالعزيز بن سعود الجيولوجيين إلى المملكة العربية السعودية لأول مرة، كان ذلك من أجل البحث عن المياه، وليس البترول. وأدى ما اكتشفوه إلى تغيير المملكة، وتغيير المنطقة. وخلال القرن العشرين، غيرت الثروة والمياه أنماط الحياة فى المنطقة بصورة درامية. إذ تدفق السكان من المناطق الريفية إلى المدن، وهجروا الرعى والزراعة المعيشية. وبدأت الخضراوات تشكل المظهر المعتاد فى نظام الغذاء اليومى، كما تزايد استهلاك اللحوم. وفى الوقت نفسه تزايد السكان. وبدأت الحكومات الحديث عن الأمن الغذائى، ووضعت مخططات مدروسة حتى تصبح مكتفية ذاتيا من السلع الغذائية الرئيسية كالقمح ومنتجات الألبان. وفى ذلك الوقت، استأثرت الزراعة بما يقارب 80% وفى بعض الحالات أكثر من %90 من المياه المستخدمة فى الدول الصحراوية. ويعود السبب فى إمكانية حدوث ذلك إلى استغلال مخزون المياه الجوفية فى الاستخدام الزراعى. فبينما لا يوجد فى الصحارى والأدغال سوى قليل من المياه الظاهرة، فقد كانت الاحتياطيات الضخمة التى تحتها قادرة على تحويل الأرض البنية الداكنة إلى خضراء، عاما بعد عام. هيمن البحث عن الماء على حياة الشرق الأوسط لآلاف السنين، ولذلك كان توفير إمدادات فعالة منه مؤشرا واضحا على تحقيق الحكومات فى الشرق الأوسط لشىء متميز من أجل شعوبها. وبشكل خاص فى الدول الصحراوية فى شبه الجزيرة العربية، وفرت الحكومات إمدادات المياه مجانا، أو بتكلفة لا تذكر. وعلى نحو مفاجئ، أمكن للناس الاعتماد على وجود الماء لديهم من أجل الشرب والاستحمام، مع تحسن الصحة العامة نتيجة لذلك. وبشكل ملحوظ، بدأ انتشار الزهور والأشجار على الطرق السريعة المنشأة حديثا. وفى دولة مثل الأردن، سمحت المياه الجوفية بازدهار أشجار الفواكه، وفى اليمن، روت المياه الجوفية محصول «القات» دائم النمو، وهو أوراق منشطة تقوم عليها التجارة والنشاط الاجتماعى. واجتاحت الثورة الزراعية الشرق الأوسط. وصارت المياه، التى دائما ما يراها كثير من الناس على أنها منحة من الإله، أحد الحقوق، وصار استخدام المياه شأنا وطنيا. ظل الباحثون يكتبون بشأن المياه فى الشرق الأوسط سنوات، ولكن كثيرا منهم كانوا ينظرون إلى الطرف الخاطئ من المعادلة. واشتملت معظم كتاباتهم تقاسم أحواض الأنهار الكبيرة التى تشكل المنطقة: الأردن والنيل ودجلة والفرات. ولفترة امتدت لنصف قرن، مارس الدبلوماسيون المساومات حول تدفقات تلك الأنهار عبر الحدود. ونجحوا فى ذلك إلى حد بعيد، ولم تتولد بشأن الأنهار صراعات مسلحة. ولكن الأنهار لا تمثل جوهر القصة. إذ تعد الأنهار موارد متجددة، تتجدد كل عام من خلال ذوبان ثلوج الشتاء وسقوط أمطار الربيع. كما أنها ظاهرة للعيان؛ فعندما يصيب الجفاف نهرا، تبدو مستويات نضوبه بوضوح فى مرحلة مبكرة. لكن الآبار التى تغذى جزءا كبيرا من الزراعة فى الشرق الأوسط، تعتبر موردا محدودا، ويتم استغلالها بصورة تفوق قدرتها على تجديد نفسها بكثير. فتصب الأمطار التى سالت على الأرض لعشرات الآلاف من السنين الماضية على محاصيل الخيار والطماطم، والتين والخوخ، والقمح والبرسيم. فى السنوات الأولى من هذا القرن، ظهرت بالفعل إشارات كثيرة على أن سياسات السبعينيات التى كان المراد منها توفير أمن ذائى، خلقت فى الواقع ضعفا مجتمعيا. إذ ينبغى حفر الآبار باضطراد إلى عمق أكبر، إلى جانب أن مياه الآبار صارت أقل نقاء. ويشعر الجيولوجيون بالقلق لأننا مقدمون على فترة عصيبة. فربما تنفد المياه من صنعاء عاصمة اليمن خلال خمس سنوات؛ وربما لا تمتلك عمان عاصمة الأردن من المياه سوى ما يغطى 15 عاما فقط. بمجرد نفاد المياه، لن تكون الخيارات جيدة. إذ لن تنهار الزراعة فقط، ولكن المدن سوف تجد نفسها فى معاناة شديدة للحصول على الإمدادات الأساسية من المياه من أجل خدمة سكانها. ورغم وجود فرصة لتحلية المياه أمام البعض، فإنها مكلفة وتستخدم كمية كبيرة من الطاقة، خاصة إذا كان المستخدم النهائى على مسافة كبيرة من الشاطئ، أو يقطن المرتفعات العالية، أو كلاهما معا. وإذا أضير الأمن المائى بالفعل، فسوف يصل الجانب السياسى المحيط باستخدام الماء إلى مدى أبعد. إذ تعتبر المياه موضوعا سياسيا فى أى مجتمع يعانى من الجفاف، كما تشهد بذلك جماعة الضغط القوية التى شكلها الفلاحون فى غرب أمريكا. ونادرا ما كان أداء حكومات الشرق الأوسط جيدا فيما يتعلق بتخصيص الموارد الشحيحة، بينما كانت عقود الوفرة تجعل الخيارات أسهل. ولكن ذلك العهد اقترب من نهايته. وفوق ذلك، فإن بعض أكبر مستخدمى المياه فى الزراعة فى الشرق الأوسط هم من بعض أكبر الأسر القوية (إذا لم تكن الأسر الحاكمة نفسها)، مما يصعب فرض القيود على استخدام المياه بشكل خاص. وسوف يعمل المال والجغرافية على تخفيف آثار الصدمة على بعض الدول الغنية، وخاصة فيما يتعلق بتوفير كميات محدودة نسبيا من المياه من أجل الاستخدام المنزلى. ومع ذلك، يصعب تخيل مستقبل دون حركة لملايين من البشر، وتغييرات درامية فى أنماط المعيشة، وإحساس قوى ومنتشر بالإخفاق الحكومى. إن الوضع ليس ميئوسا منه بالكامل، إذ يمكن إحداث فرق من خلال سياسات زراعية معدلة، وأساليب الزراعة المحسنة، وإعادة تدوير فاقد المياه بجرأة. ويمكن أيضا القيام بمحاولات لتحسين الإشراف الحكومى على الآبار، واستخدام سياسة تسعير تشجع الاقتصاد فى الاستخدام، وإدخال الابتكارات على أنظمة توصيل المياه. وقد أدى جمع الحكومة بين العمل والتقاعس عن العمل إلى هذه المشكلة. إلا أنه من خلال الأداء الحكومى فحسب يمكن تخفيف معظم آثارها المدمرة. ولكى تنجح حكومات الشرق الأوسط، ينبغى عليها حشد كل إرادتها السياسية، ومهارة الحوكمة، وقيادة الناس باتجاه خلق نماذج جديدة فى السلوك. ويعتبر الوفاء بذلك مستوى رفيعا للإنجاز بالنسبة إلى أى حكومة، ناهيك عن الحكومات التى كانت فاعليتها دائما محل شك. ولكن البديل مخيف بالفعل.