فى عام 1918 كان اسم الولاياتالمتحدة متداولًا على كل لسان فى مصر والبلاد العربية بمحبة وتقدير بعد إعلان الرئيس الأمريكى ويلسون مبادئه الأربعة عشر الشهيرة، والتى تضمن أحدها حق الشعوب فى تقرير مصيرها، هذه المبادئ علقت عليها حركات التحرر الوطنى آمالًا كبيرة فى نزع نير الاحتلال والاستعمار عن كاهلها، وبدء عصر جديد من التحرر والسيادة. فى مصر آنذاك تم تشكيل وفد برئاسة سعد زغلول للسفر إلى باريس وحضور مؤتمر الصلح والمطالبة باستقلال مصر وفق مبادئ الرئيس ويلسون رئيس المؤتمر، إلا أن بريطانيا حالت دون ذلك، فكانت النتيجة تفجر ثورة 1919 التى تصدت لها بريطانيا بالقوة العسكرية، وفى تلك الآونة صُدمت الحركة الوطنية المصرية من موقف الرئيس ويلسون الذى اعترف بالحماية البريطانية على مصر. الرئيس الأمريكى لم يتخاذل وحسب عن مساندة قضية الاستقلال المصرى، لكنه تبنى الكذبة التى أطلقها اللورد آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا آنذاك، والتى تزعم أن الثورة المصرية أعد لها وطنيون متطرفون هم عملاء ممولون من حزب ثورى فى تركيا ومن البلاشفة الروس، وأنهم يستغلون مبادئ ويلسون لتأجيج نيران حرب مقدسة ضد غير المسلمين. بعد ذلك بثلاثة عقود وفى عام 1947 كانت الولاياتالمتحدة فى مقدمة الدول التى أيدت قرار تقسيم فلسطين، ومارست نفوذها على العديد من الدول لتأييد القرار فى الأممالمتحدة، وهى الدولة الأولى التى اعترفت بإسرائيل، فكانت تلك هى لحظة تدشين الرعاية الأمريكية والدعم المطلق لإسرائيل على حساب الحقوق الفلسطينية والعربية. رغم أن السنوات اللاحقة قد شهدت حضورًا أمريكيًا متصاعدًا فى الشرق الأوسط ارتباطًا بمصالح شركات النفط الأمريكية ثم بمصالح شركات السلاح التى وجدت فى المنطقة العربية مجالًا مربحًا لأعمالها، فإن السياسة الخارجية الأمريكية اعتبرت ذلك أمرًا واقعًا لا يستحق ترضية أو مراعاة منها للدول العربية التى تتشارك معها العلاقات والمصالح. • • • على ذلك النهج واصل الصديق الأمريكى سياساته علانية ودون مواربة فى الدعم المطلق لإسرائيل بإمدادات لا نهاية لها من السلاح والعتاد والتدريبات العسكرية المشتركة والبحوث العسكرية وتطوير الأسلحة، بالإضافة إلى دعم اقتصادى ومالى غير محدود بالهبات والمعونات والمساعدات. أما الحماية والتغطية السياسية غير المحدودة فى المحافل والمنظمات الدولية فقد ترتب عليها تحرك إسرائيل دون ضابط أو اعتبار فتصول وتجول وتضرب وتدمر، وهى مطمئنة إلى أن الولاياتالمتحدة كفيلة بتغطيتها سياسيًا على مختلف الأصعدة، وليست الولاياتالمتحدة فقط بل حلفاؤها ومن يدور فى فلكها من الدول الغربية التى انتهجت وما زالت تنتهج ذات السياسة، وإن اختلفت صورها وأساليبها. كثر فى المنطقة العربية باتوا ينظرون إلى الولاياتالمتحدة باعتبارها الصديق اللدود، هو صديق لكنه لا يسلك كصديق، هو شريك فى مجالات كبرى من العلاقات والمصالح لكنه لا يسلك كشريك. دخل الصديق الأمريكى أزمة الخليج كشريك لتحرير الكويت، لكنه سرعان ما استغل الأمر لتدمير دولة عربية كبرى هى العراق، ولاحقا سار على ذات النهج مستغلا أحداث الربيع العربى الكاذب، ليؤجج نيران الاحتراب الداخلى فى سوريا، ويفرض حصارًا محكمًا عليها ويقيم القواعد العسكرية فيها، والأمثلة تمتد فى كل أنحاء المنطقة العربية، حيث يمكن العثور على بصمات الصديق الأمريكى على الكثير من الوقائع والأحداث. فى فلسطين وقبل أحداث غزة بوقت طويل، ومع مواصلة إسرائيل القضم المستمر البطىء دون هوادة للأراضى الفلسطينية فى الضفة الغربية والبناء المستمر للمستوطنات والتوسع فى المستوطنات القائمة، وإضفاء الشرعية على المناطق الاستيطانية، هددت الولاياتالمتحدة باستخدام حق النقض ضد قرار اقترحته دولة الإمارات بإدانة المستوطنات الإسرائيلية باعتبارها تمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولى. وانتهى الأمر تحت التهديد الأمريكى باستخدام حق النقض (فيتو) بصدور بيان رئاسى رمزى لم يتضمن حتى الإشارة إلى عدم شرعية المستوطنات الإسرائيلية أو حتى مطالبة إسرائيل بوقف الأنشطة الاستيطانية، وعليه واصلت الحكومة الإسرائيلية بالمضى قدمًا فى التوسع والبناء الاستيطانى فى الأراضى الفلسطينية، وهى مطمئنة وآمنة إلى التغطية الأمريكية على أفعالها وممارستها. • • • بالأمس القريب وبالرغم من المذابح الوحشية التى ترتكبها إسرائيل فى قطاع غزة، والتى وصلت أعداد ضحاياها إلى ثلاثين ألف شهيد وشهيدة ومائة ألف شخص جريح ودمار شامل فى المبانى والمنازل، فإن الولاياتالمتحدة استخدمت حق النقض فى مجلس الأمن الدولى لإجهاض مشروع القرار المقدم من الجزائر للمطالبة بالوقف الفورى لإطلاق النار فى غزة لأسباب إنسانية، وحصل مشروع القرار على تأييد 13 عضوًا وامتناع المملكة المتحدة عن التصويت. وكانت تلك هى المرة الثالثة التى تستخدم فيها الولاياتالمتحدة حق النقض فى مجلس الأمن لوقف صدور قرار دولى من مجلس الأمن بشأن العدوان الإسرائيلى الوحشى على قطاع غزة طوال الشهور الخمسة الماضية. بذلك استخدمت الولاياتالمتحدة حق النقض 46 مرة ضد مشروعات قرارات فى مجلس الأمن تتعلق بإسرائيل من إجمالى 89 مرة استخدمت واشنطن فيها حق النقض فى مجلس الأمن منذ عام 1945، أى أن أكثر من نصف عدد المرات التى استخدمت فيها الولاياتالمتحدة حق النقض فى مجلس الأمن كان للدفاع عن إسرائيل وخدمة لها وتغطية على أفعالها. كتب كوفى عنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، عن ذلك، مشيرًا إلى أن فشل الأممالمتحدة فى تحقيق سلام دائم فى الشرق الأوسط هو بمثابة جرح داخلى عميق للأمم المتحدة ومنظماتها، وأشار عنان إلى الدور الحمائى الذى تقوم به الولاياتالمتحدة لإسرائيل لحمايتها من المساءلة فى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، واعتبر ذلك سببًا رئيسيًا لهذا الفشل، وكتب عنان: «لقد استخدمت الولاياتالمتحدة حق النقض لحماية إسرائيل حتى من التدقيق والضغط الدوليين المعقولين، ما أدى إلى إصابة مجلس الأمن بالشلل وتعويقه عن القيام بدوره». • • • كثر فى جميع أنحاء العالم والمنطقة العربية يعجبون بالنموذج الأمريكى المشرق فى مجال العلوم والفنون والرياضة، لكنهم فى ذات الآونة يضعون العديد من علامات الاستفهام على السياسات الأمريكية، وعدم توازنها تجاه العديد من القضايا السياسية والاقتصادية والبيئية فى العالم، وحتى المبررات والذرائع والدوافع التى تقدمها الولاياتالمتحدة باتت لا تقنع أحدًا. يأسف كثر لكل ذلك، فالولاياتالمتحدة كقوة كبرى يمكنها أن تقدم الكثير والكثير للسلام والتنمية والازدهار والتقدم فى العالم، ويمكنها كقوة كبرى أن تصبح منارة للقيم النبيلة والمبادئ الإنسانية والحضارية، ويمكنها أن تكون أكثر مكانة بكثير مما هى عليه اليوم، لكنها للأسف تفعل العكس تمامًا.