مع أجواء ليلة قاتمة، بدرجات من اللون الأزرق، وسحب كثيفة تكاد تبدو أشعة القمر، تأتى موسيقى المقدمة، ذات الطابع الإرهابى، يمتزج فيها إيقاعات مارش مع مزمار أقرب للنواح، ولاحقا، بعد عشرات الحلقات، يضاف لها صوت نعيق غربان وعواء ذئاب.. وفى المشهد الافتتاحى، المفعم بالهواجس، لأول حلقة، نشهد رجلا مهما، يجلس على المقعد الخلفى لسيارته، يتابع بقلق صوت ثم صورة مذيع نشرة الأخبار، من جهاز التليفزيون الصغير، داخل العربة. المذيع يعلن.. «قدم معاون مستشار وزير الداخلية السابق، إرجان قايا، إفادته لقاضى محكمة أمن الدولة باسطنبول، فيما نسب له من اتهامات بشأن تكوين منطمة غير قانونية تعمل فى تهريب السلاح والمخدرات».. وتمتد ظلال الشك لتحيط بالقاضى نفسه، فالمذيع يواصل «أن عددا من الذين وردت أسماؤهم فى قائمة الاتهام صرحوا بأنه جرى تهديدهم بالقتل ووعدوا برفع أسمائهم من القائمة إذا دفعوا مبالغ كبيرة».. وها هو القاضى، شبه المتهم، يظهر على الشاشة الصغيرة، نافيا أى علاقة له بهذه الافتراءات. بعد أكثر من مائة حلقة، فى الجزء الثالث، تسرد إحدى القنوات التليفزيونية، من داخل المسلسل، قائمة طويلة، وثائقية، مدعومة بالوقائع والأماكن والتواريخ، بأسماء من تم اغتيالهم، ومن بينهم أساتذة جامعات، صحفيون، رجال أعمال، زعماء مافيا، جنرالات، مسئولون كبار، قضاة.. وقيدت هذه الجرائم جميعا ضد مجهولين، شأنها شأن عمليات التخريب والتفجير. على امتداد ما يزيد على الثلاثمائة حلقة، يعمل المسلسل على كشف أسباب وعوامل وآلية مظاهر العنف والفوضى، والعنوان وادى الذئاب له دلالتان: أولاهما عام، يتعلق بمتابعة العالم السفلى لعصابات المافيا، وعلاقاتها بمجمل أنشطة الحياة، التجارية والصناعية والسياسية، فضلا عن تأثيرها الفعال فى مراكز صنع القرار.. والدلالة الثانية ذات معنى خاص، يتعلق بالعملية التى يقوم بها «أصلان»، أحد كبار رجال المخابرات، بشأن إنشاء منظمة لها استقلالها، تكلف بمهام لا يعلم أحد عنها شيئا. الورشة بدأ عرض«وادى الذئاب» عام 2002، إبان التغييرات الكبيرة التى اعتملت فى تركيا، وأدت إلى تقدم «الحزب الأبيض» أو «العدالة والتنمية» بقيادة طيب أردوغان وعبدالله جول، عقب منافسات وصراعات ضد أحزاب وتيارات لها شأنها.. المسلسل لا يتابع ما يدور على مسرح السياسة على نحو مباشر، ولكن يرصد، بطريقته، توافقات ومصادمات عائلات المافيا، والتى تعبر عن «الحالة التركية» ذات الطابع الحائر، وسط رياح المصالح التى تنطلق من عواصم بعيدة وقريبة، تبحث عن قبول وسند لها، داخل تركيا. رواج «وادى الذئاب» الذى تجاوز مئات الحلقات، لا يرجع لعمق وقوة وجهات نظره السياسية أو الفكرية، ولا لتميز مستواه الفنى، ولكن لقدرته على جذب المشاهدين، ففيما يشبه الورشة، قامت مجموعة من الاسطوات بكتابة المسلسل الذى صاغه كل من «راسى ساسماز» و«مهمت تيرجت»، والواضح أنهما اعتمدا على مواصفات أكيدة المفعول، مجربة من قبل استخدمتها السينما الأمريكية فى أفلام العصابات، حيث أشد أنواع المجرمين خطرا، ممن يجيدون التآمر والابتزاز والتربص والمطاردات والمواجهات وخطف الرهائن والتصفيات الجسدية.. وهذه العناصر تدفع المشاهدين إلى المتابعة، خاصة حين تنتهى كل حلقة بموقف ساخن شديد التوتر. «وادى الذئاب» أخذ الكثير من أفلام «المافيا السياسية» التى حققتها السينما الإيطالية، ببراعة، فى أواخر الستينيات، والتى تجاوزت النظرة إلى «المافيا» على أنها مجرد عصابات خارجة على القانون، ولكنها مؤسسات راسخة، ذات واجهات براقة من شركات مقاولات، استيراد وتصدير ونقل، مستشفيات، مصانع، وترتبط بعلاقات على مستوى الشبهات بضباط شرطة وقضاة ونواب أمة ومجالس شعب. قماشة «وادى الذئاب»، فى الكثير من أجزائها، منسوجة على منوال «الأب الروحى» لفرانسيس فورد كوبولا، وبالتحديد فيما يتعلق بطريقة إدارة اجتماعات مجالس المافيا، والاهتمام بالجانب الأسرى لكل شخصية من أعضائها البارزين. من الناحية الفنية، يتسم «وادى الذئاب» بدرجة ما من إتقان الصناعة مع القليل من الإبداع، بل يعانى، فى مساحات منه، بالترهل الشديد، والتحايل بكل السبل المعهودة من أجل استهلاك المزيد من زمن الحلقات، مثل الإسراف فى المشاهد التخيلية، والفلاش باكات، ومناجاة الصور المتعلقة على الحوائط، والرصد الممل لتفاصيل الجنازات ودفن الموتى، وتعقب مطاردات السيارات، والتصوير البطىء لمعارك السكاكين وإطلاق الرصاص، والتسكع طويلا حول مواقع التعذيب، بتنوعاتها الفظيعة، المستوحاة من التراث العثمانى المهول تارة، والابتكارات المروعة تارة أخرى.. فمن التراث العثمانى نتابع عمليات الحرق والإغراق، سواء فى الماء البارد أو الذى يصل لدرجة الغليان، الذبح، الطعن، تهشيم العظام، الضرب بالهراوات والكرابيج، وحمد لله أنه لم يقدم لنا الإعدام بالخازوق. أما عن ابتكاراته، فتشمل فيما تشمل، الحقن بمواد مخدرة وسوائل تصيب المرء بالهستيريا، وإلقاء الخصوم من نوافذ الأدوار العليا، والدهس بالسيارات.. إنه مسلسل وحشى، يقطر دما. بناء دائرى حلقات المسلسل، بأجزائه المتوالية، تعتمد على شخصية محورية واحدة، هى أقرب للعمود الفقرى، تنظم جسم «وادى الذئاب» وتمتد من بدايته لنهايته، وهى شخصية تتجمع فيها قدرات خارقة، تذكرنا بشجاعة وإقدام العميل العتيد «جيمس بوند»، ولا تخلو من ذكاء وفطنة المفتش «بوادو» بطل روايات أجاثا كريستى والأفلام المأخوذة عنها، بالإضافة لشىء من قوة وعزيمة «رامبو»، مع اختلاف فى الشكل ومجالات التحدى والنزال.. بطل المسلسل «مراد علم دار»، الذى يؤدى دوره النجم «نجادى شاشماط»، صاحب جسم نحيل، على درجة كبيرة من الأناقة، سواء فى الملبس أو فى اللفتة أو فى الابتسامة، متسق التقاطيع، يشع من عينيه مزيج من الصدق والثقة، وجهه حليق دائما، حتى إذا كان داخل سجن أو على سرير مرض، نعرفه فى البداية باسم «على»، يساعد المقاومين ضد الصرب فى سراييفو، تحت غطاء عمله كدبلوماسى فى السفارة التركية، وما إن يعود إلى اسطنبول ويلتقى حبيبته «رهف»، المحامية الجميلة، الشجاعة، ويتفق معها على الزواج، حتى يكلفه أستاذه «أصلان» بمهمة صعبة: تغيير اسمه وملامحه واختلاق تاريخ مزيف له، استعدادا للانخراط فى واحدة من أكبر عائلات المافيا فى اسطنبول، يقودها ويسيطر عليها البارون «محمد قرخللى»، الذى يتعامل معه السيناريو بتوقير شديد، فالرجل يحتكم للعقل، دمث الخلق، ينسق بمهارة بين أنشطة تشمل تجارة مخدرات، تهريب سلاح، سرقة آثار، تنظيم صالات قمار، غسيل أموال، إثارة فتن وقلاقل، تصفية حسابات مع منافسين وسياسيين ومسئولين. جدير بالذكر أن المسلسل يكشف لنا، بالتدريج، فى حلقات تالية، فى الجزء الثانى والثالث، عن حقائق لا تخطر على بال، لعل أهمها ما يتعلق بالبارون «محمد قرخللى» الذى كان، فى يوم من أيام الماضى، مسئولا كبيرا فى المخابرات التركية، وانشق عليها، واندمج فى صفوف المافيا، ووقع عليه عقاب بالغ القسوة: خطف ابنه «أيمن»!.. ومن الذى سيقوم بخطف الطفل الصغير؟ إنه «أصلان».. وفعلا، يؤدى «أصلان» المهمة، ويضع الطفل فى ملجأ باسم «على»، ويرعاه ويعلمه ويلحقه بالوظيفة. هكذا: أى أن «أيمن» هو ذاته «على» وهو أيضا «مراد».. وقائع لا يمكن أن تحدث إلا فى مسلسل تركى. تركيبة «مراد علم دار» على هذا النحو، أتاحت لورشة الكتابة تصنيع عشرات المواقف، ذات الطابع العاطفى المبهم، المؤثر، مثل مشاعر «رهف» المتضاربة تجاه «مراد»، فهو يذكرها بحبيبها المتوفى حسب ظنها ومن ناحية يحس نحوها بالحب، لكن لا يستطيع أن يبوح.. أما والدته، زوجة «محمد قرخللى» المصابة بالشلل، الفاقدة للنطق، منذ اختطاف وليدها، فإنها تنتعش كلما وقع نظرها على «على» الذى يماثل ابنها المختفى فى العمر، ولاحقا، فى الجزء الثالث، تتحسن حالتها وتشفى تماما، بعد معرفة السر.. أحداث لن تجدها إلا فى «وادى الذئاب». فى الجزء الأول من المسلسل يتقرب «مراد» من المافيوزى المهم «سليمان شاكر» وتتوطد بينهما العلاقة، خاصة بعد أن يكاد «مراد» يموت وهو يفتدى «شاكر» من اغتيال محقق، يدخلان، كتفا بكتف، فى معركة مفتوحة ضد منافسين أقوياء، من أجل الحصول على حق افتتاح صالة قمار. تتوالى المصادمات والعراقيل والمؤامرات، إلى أن ينجحا فى مسعاهما.. وها هى ليلة الافتتاح الخلابة، ديكورات مبهرة بلونها الأحمر، الثريات المتلألئة تتدلى من الأسقف، الفاتنات يقفن وراء الطاولات، موسيقى أقرب لمقطوعة «الجندول» لمحمد عبدالوهاب، من دون كلمات على محمود طه طبعا، ويزج المنافس «منجد» المعروف باسم «نصيب»، بعتاة المقامرين الذين يعرفهم بصفة أكبر مروج للقمار فى اسطنبول، ولكن «مراد» و«شاكر» ينتبهان، ويفسدان المخطط.. تتصاعد الصراعات، وتصل إلى حد المذبحة داخل الصالة التى تتحول إلى سلخانة، تتناثر فيها الجثث، وتنتشر الفوضى، وتسقط الثريات، وتتهشم ماكينات ومناضد القمار.. وتجرى فى النهر مياه كثيرة، تنتهى بانتصار الثنائى «مراد» و«شاكر». الأجزاء التالية، قد تختلف فى التفاصيل، تنتهى علاقات وتبدأ علاقات، تختفى شخصيات وتظهر شخصيات، تنتقل الاهتمامات من مجال لمجال، لكن أجزاء المسلسل تتشابه، إن لم تتطابق، جوهريا: منافسات، خلافات، مؤامرات، مواجهات، صراعات دامية، أحد أطرافها ثابت، يتمثل فى الثنائى «شاكر» و«مراد»، والثانى متغير، فأحيانا يكون المجرم العتيد «منشار»، واسمه يدل على طريقته فى القتل، ومرة يكون شريرا أشد بأسا، وهكذا.. بناء يتسم بالشكل الدائرى، فكل جزء يتكون من مجموعة حلقات، تدور على ذات الوتيرة، لتعاد من جديد، فى الجزء التالى.