انطبعت فى مخيلة الكثيرين صورة الرجل مطأطئ الرأس تحت قبعة من الخوص عريضة الحواف، يغفو إغفاءة القيلولة على رصيف فى شارع مقفر من المارة فى مكسيكو سيتى أو مدريد أو باليرمو أو أسونسيون فى باراجواى، أو فى المستوطنات الصحراوية، التى أقامها الإسبان والمكسيكيون فى أراضٍ كانت لهم قبل أن تصبح ولايات أمريكية. هكذا انطبعت فى الأذهان صورة إغفاءة القيلولة مرتبطة بثقافات معينة أو بطبيعة مناخية خاصة. وارتبطت أيضا بالكسل والتراخى وقلة الإنتاجية. أخشى أن أكون واحدا من هؤلاء الذين لم تقم بينهم وبين إغفاءة القيلولة مودة، وأظن أن السبب يعود إلى أننى نشأت فى بيت يقدس هذه العادة ضمن عادات وطقوس أخرى، ولعلها كانت، فيما أذكر، أتعس أوقات يومى حين كنت لا أجد أحدا يداعبنى وأداعبه ولا صوت يؤنسنى، بالإضافة إلى أن مشاغبة من جانبى توقظ النائمين قبل الأوان أو تزعج استمتاعهم بهذه الإغماءة اللذيذة كانت كافية لأن تقضى العائلة ليلة كاملة متوترة وعصبية. نشأنا وشببنا مقتنعين أن هذه العادة عالمية الانتشار، هكذا تصورنا البشر يقضون عصرياتهم فى كل مكان إلى أن استقر بى المقام لفترة فى الهند فرأيت الناس لا ينامون بالنهار شتاء كان الموسم أو صيفا. وعشت لفترة فى الصين أرى بشرا لا ينامون إلا بعد وقت من حلول الليل وقد أنهكهم العمل الشاق طيلة أربع عشرة ساعة أو ما يزيد، من الفجر وحتى موعد تناول صحن الأرز تزين سطحه ورقات كرنب مسلوق. ولكن فى إيطاليا ومعظم أنحاء أمريكا اللاتينية وجدنا أهلها يتعاملون مع نوم القيلولة باعتباره من مقدسات الطقوس وضرورة حياتية، فبدونه لن يتسنى السهر رقصا وغناء ومرحا حتى الفجر. *** قبل أيام قليلة عقد فى مدينة سان دييجو الأمريكية مؤتمر ناقش بحثا توصل باحثوه إلى أن الأشخاص الذين يمارسون عادة إغفاءة القيلولة ويداومون عليها لا يتعرضون إلى أمراض القلب بالكثرة أو الصورة التى يتعرض لها من لا يمارسون هذه العادة. يقول ماثيو ووكر الأستاذ بجامعة كاليفورنيا، بيركلى، إنه وزملاءه وجدوا أن ممارس هذه العادة يتمتع بذاكرة أقوى، وتوصلوا إلى أن إغفاءة قصيرة بعد الغذاء تجعل المخ أكثر استعدادا وتأهلا للتعلم، فالقيلولة تنشط قدرة المخ على المحافظة على «الذاكرة ألحديثة»، أى ذاكرة الأحداث «الأحدث»، وهى وظيفة حيوية تسبق عملية انتقال هذه الأحداث (المعلومات الطازجة) إلى مواقع فى المخ مخصصة للذاكرة طويلة الأجل. وجد الباحثون أن المتطوعين للبحث، الذين ناموا خلال الظهيرة تحسنت قدرتهم على التعلم على عكس المتطوعين الذين حرموا من النوم، بمعنى أن الإغفاءة ساعدت المخ على «تصفية» الذاكرة القصيرة الأجل وتأهيله لاستقبال معلومات حديثة بسهولة أكبر واستيعاب أقوى. ويعتقد ووكر وزملاؤه أن المدة الأمثل لقيلولة ناجحة هى ما بين 90 و100 دقيقة. معروف أن الثلاثين دقيقة الأولى يكون النوم فيها خفيفا بما يساعد على استقرار أداء المخ واستعداده للمرحلة الثانية، وهى الثلاثون دقيقة التالية التى تنتعش فيها الذاكرة قصيرة الأجل، وتبدأ فى تصفية الأحداث وإعدادها للربط بوقائع حياتية تكاد تكون ثابتة. وفى الدقائق الأخيرة من الإغفاءة، وهى المرحلة من النوم التى تتحرك فيها العيون بسرعة غير عادية تحت أجفانها وترى فيها شرائط الأحلام يقوم المخ بوظيفة الربط بين الذاكرة الجديدة والذاكرة المخزونة بهدف جعل التجارب الجديدة المستقاة خلال النهار ذات معنى لحياة الشخص وتجاربه السابقة. وتنقل مجلة الإيكونوميست عن مجموعة الباحثين الأمريكيين نصيحتهم إلى هواة إغفاءة القيلولة أن يبتعدوا بها بقدر الإمكان عن حلول المساء، وأن يحذروا الإفاقة من الإغفاءة فجأة بسبب إزعاج خارجى أو وازع داخلى، فالحالتان تتسببان فى تعكير مزاج الفرد وتوتر الأجواء العائلية والتصرف بعصبية مع الأطفال والمحيطين، وإحداهما على الأقل تتسبب فى أرق لا ينفع معه مسكّن أو منوّم. *** بالاطلاع على تطورات قضايا النوم وبمتابعة أصداء البحث والمؤتمر، تبين أن قطاعات فى الشعب الأمريكى بدأت تهتم بإغفاءة القيلولة بعد تاريخ طويل من الالتزام بيوم من العمل يبدأ فى التاسعة وينتهى، أو لا ينتهي، عند الخامسة. تذكرت كيف كان الأدب الإنجليزي يسخر من التزام الأرستقراطية البريطانية ممارسة إغفاءة القيلولة وتقديسها لها حتى سارت مثلا شائعا فى أنحاء الإمبراطورية عبارة «الإنجليز والكلاب المجنونة هى الكائنات الوحيدة التى تمشى فى الشوارع فى شمس الظهيرة».