مع شيوع نظريات المؤامرة فى الإمبراطورية العثمانية السابقة منذ القرن التاسع عشر، أصبحت تركيا رهينة مخططات القوى العظمى. لكن حتى بهذا المعيار، فإن اسطنبولوأنقرة تستأثران بالنظريات الحالية. وتطفو على السطح، فى قضايا تنظرها المحاكم حاليا، حكايات عن «دولة داخل الدولة»، تزعم أن خلف ديمقراطية تركيا الحديثة هناك مؤسسة أمنية وبيروقراطية قوية، وإن كانت غير مرئية، تتآمر على تحطيم الحكومة المنتخبة. وقد أثيرت الاتهامات فى قضية تعرف باسم إرجنكون. وحسب المدعين العموم الحكوميين، فإن الدولة داخل الدولة، التى تتمثل فى مجموعة من القضاة، والصحفيين، وقادة النقابات، والفنانين وضباط الجيش المتقاعدين، كانت تعد لانقلاب على حزب العدالة والتنمية الإسلامى الحاكم. وتقول أوراق المحكمة: إن هؤلاء القوميين العلمانيين كانوا يخططون أيضا لهجمات إرهابية إسلامية، ماركسية ومؤيدة للأكراد فى ذات الوقت. وفى أى مجتمع غربى، فإن مثل هذه الاتهامات المشوشة يمكن استبعادها بوصفها ضربا من الخيال. لكنها تكتسب القوة فى تركيا، لسبب بسيط هو أن البلاد ترزح منذ زمن طويل تحت سطوة الأمن. على أن الشائعات الحالية تفتقد الأساس لأن قاعدة السلطة تفككت فى الأعوام الأخيرة. واليوم، فإن الإسلاميين هم الذين يمسكون بالخيوط. لقد ظهرت الدولة داخل الدولة القديمة على السطح فى أوقات كثيرة من تاريخ تركيا، للإطاحة بالحكومات الديمقراطية التى تبتعد عن الميراث العلمانى لكمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة. وقد سلط الضوء على الصلات الفاسدة والحميمة التى أقامتها هذه المؤسسة، فى 1996، عندما تورط رباعى( سياسى، وضابط شرطة، وملكة جمال وأحد لوردات المخدرات) فى حادث سيارة. ولم ينج من الحادث سوى السياسى، وسمحت التغطية الصحفية المؤثرة للحادث للطبقة الوسطى فى تركيا، المتزايدة النشاط، بمقاومة هذه النخبة الفاسدة التى حدت من حرياتها. وقد أضعفت الدولة داخل الدولة بعد ذلك بسبب عملية الانضمام للاتحاد الأوروبى، التى بدأت على أثر ذلك. ففى 1999، قرر الاتحاد الأوروبى قبول ترشح تركيا للانضمام للاتحاد بشرط أن تحسن أنقرة من أوضاع الحريات المدنية، وأن تحد من تدخل الجيش فى السياسة وتعزز الديمقراطية فى البلاد. ثم، فى 2002، وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة. وفى البداية، بدا وكأنه ابتعد عن جذوره الإسلامية وتبنى فكرة الانضمام للاتحاد الأوروبى للفوز بدعم الليبراليين. وأمَّل كثيرون من الديمقراطيين الأتراك فى أن يقضى الحزب على الدولة داخل الدولة مرة وللأبد، فوقفوا وراء الحزب. على أنه وبعد مرور سبع سنوات، فإن الحزب بدلا من أن يتخلص من الوسطاء الخفيين الأقوياء، يستغل قضايا مثل أرجنكون التى يبدو أنها تنطوى على مؤامرة حقيقية للإطاحة بالحكومة لمهاجمة قضاة تركيا العلمانيين، وإعلامها، وجيشها، بل وأى معارضين سياسيين. وقد احتجزت الشرطة أكثر من 100 من المتآمرين المفترضين، من بينهم صحفيون، وضباط جيش، ورجال أعمال، وقضاة وأكاديميون. وقد سحب المعارضون السياسيون لحزب العدالة والتنمية من أسرتهم فى ساعات الصباح الباكرة، لا لشىء إلا ليطلق سراحهم بعد ثلاثة أيام من استجوابات الشرطة المزعجة. ولا غرو إن أصبح كثيرون من «المشتبه بهم» أكثر إذعانا. وخشية من أى شك فى عبثية بعض ادعاءات الحكومة، لك أن تفكر فى أن قضية أرجنكون تقوم فى جانب منها على شهادة شخص يدعى تونكاى جونى، ادعى أنه ضابط سابق بالمخابرات التركية ويعيش الآن فى المنفى بكندا، حيث أصبح حاخاما يهوديا، على حد قوله. ولا يهم ما قالته الطائفة اليهودية فى تورنتو من إنه ليس حاخاما ولا حتى يهوديا؛ فهويته المفترضة تتماشى تماما مع معاداة الإسلاميين فى تركيا للسامية، الذين يحبون تصوير اليهود كمتنفذين فى بلدهم. كما أن بعض الادعاءات متناقضة إلى حد كبير. فالادعاء، على سبيل المثال، يرى أن المتورطين فى قضية أرجنكون كانوا يتمتعون بدعم واشنطن. لكنهم يقولون أيضا إنهم كانوا يخططون للهجوم على منشآت لحلف الأطلنطى فى تركيا. وتكمن المشكلة فى أن حزب العدالة والتنمية لا يستغل أرجنكون لتخليص تركيا من الدولة داخل الدولة القديمة، وإنما لترويع المعارضة الشرعية على أبواب الانتخابات المحلية التى ستجرى فى 29 مارس. وكما تشير الانتخابات الأخيرة، فإن أكثر من نصف السكان لا يزالوا يعارضون حزب العدالة والتنمية، لكن كثيرين يخشون الآن الكلام بسبب الدلائل التى تشير إلى مراقبة الحكومة لأعدائها. والصحفيون الناقدون للحكومة يربكهم تسريب المحادثات الشخصية إلى الإعلام الموالى لحزب العدالة والتنمية، وتسجيل الشرطة لأكثر من 1.5 مليون مكالمة هاتفية ورسالة إلكترونية فى قضية أرجنكون وحدها. ومثل هذه الإشارات تلمح إلى أن حزب العدالة والتنمية استبدل الدولة داخل الدولة القديمة بدولة جديدة من صنعه. وفى حين لايزالون يستغلون شبح المؤسسة السابقة لمطاردة المعارضين، فإن الإسلاميين يمسكون الآن بمقاليد السلطة. وإذا كانت الدولة داخل الدولة قد تصدت يوما لترويع الشيوعيين والإسلاميين، فإنها تستغل اليوم ضد الأتراك من العلمانيين والليبراليين والقوميين لقمع المعارضة. ولابد وأن التقدميين فى تركيا صاروا كسيرى القلب. وهم يأملون فى أن يخلص التحديث السياسى وحزب العدالة والتنمية الدولة من نظريات المؤامرة وقوى الظل المختبئة وراء العرش. لكن تغييرا كهذا يتطلب حزبا ليبراليا لإدارة دفة البلاد. كل الحقوق محفوظة لشركة النيو يورك تايمز لمبيعات الخدمات الصحفية. يحظر نشر هذه المادة أو إذاعتها أو توزيعها بأي صورة من الصور.