تركيا عندما تعاقب إسرائيل.. بالرقة في الأسبوع الماضي، وفق ما تقول مصادر مؤكدة، سافرت بعثة عسكرية تركية إلي إسرائيل، حيث تسلمت أربع طائرات بدون طيار صناعة إسرائيلية.. من هذا النوع الذي كانت قد استخدمت مثله تركيا في قصف معسكرات حزب العمال الكردستاني (مسلمين) وأدي إلي مقتل 130 منهم في مجموعة من الغارات.. وهي صفقة معتادة ضمن التعاون العسكري الإسرائيلي- التركي الاستراتيجي. لم تنشر وكالات الأنباء هذا الخبر.. لكنها (الوكالات) انشغلت في اليومين الماضيين بتسويق الاحتفاء التركي بمنع طائرة عسكرية إسرائيلية من التحليق في الأجواء التركية في الاتجاه إلي بولندا.. حيث كان علي متنها عدد من الضباط مقصدهم زيارة معسكر (أوشفيتز النازي).. واعتبرت التصريحات التركية أن هذا الإجراء إنما هو نوع من الردود علي التصرف الإسرائيلي تجاه أسطول قافلة الحرية قبل نحو الشهر.. التصرف الذي انتهي إلي مذبحة أريقت فيها الدماء التركية وسفكت فيها كرامتها. لقد تحركت الطائرة من إسرائيل في اتجاه بولندا، نحو عبور الأجواء التركية، بشكل يعبر عن روتينية مثل تلك الرحلات.. والروتينية لاتثير أي دهشة هنا في ضوء أن نفس الأجواء التركية استخدمت من الطائرات العسكرية الإسرائيلية من قبل للإغارة علي مواقع زعمت إسرائيل أنها نووية في سوريا (الشقيقة).. واللافت هنا أن تركيا تقول إن الطائرة أجبرت علي تغيير مسارها.. ولم تشأ أنقرة أن تعلن أن هذا الإجراء سيكون ثابتاً تجاه كل الطائرات العسكرية الإسرائيلية التي تستخدم الأجواء التركية.. وإنما قالت: سوف ننظر في كل حالة علي حدة (!!!) ببساطة لم تقل تركيا: إن علي إسرائيل أن تعلم أن طائراتها لن تستخدم الأجواء التركية من الآن فصاعداً.. لم تقل هذا. الاستخلاص يشير إلي أكثر من أمر. أولاً: أن هذا هو الإجراء التركي الأول تجاه إسرائيل.. بعد مرور 30 يوماً علي مذبحة البحر.. وهو إجراء ضعيف التأثير، لاشك في ذلك، ليست له أكثر من قيمة إعلامية لتهدئة خواطر الرأي العام التركي الغاضب.. وبالتأكيد فإن رحلة الطيران الإسرائيلية العسكرية قد وجدت طريقها إلي مقصدها.. بغض النظر عن هذا الفعل التركي اليسير. ثانياً: إن تركيا لم تعلن عن تسلم الطائرات العسكرية الإسرائيلية بدون طيار.. ما يعني أنها إنما تقول لإسرائيل إن التعاون مستمر.. ولكننا سوف نمارس بعض الألعاب علنا من أجل عبور الموقف علي مستوي المشاعر بين الناس.. وليس علي مستوي التعاون الحقيقي بين الدولتين.. إجراءات عاطفية وليست سياسية. ثالثاً: إن تركيا لم تجرؤ علي أن تجعل هذا المنع من عبور الأجواء سياسة ثابتة.. وإنما قالت إنه سيكون عليها أن تنظر في كل حالة علي حدة.. أي أن هذا العداء الإعلامي سيكون بالقطعة.. وربما حسبما تشير استطلاعات الرأي.. بمعني أنه كلما ارتفع صخب المواطنين الأتراك سوف تلقي إليهم قصة من هذا النوع.. غير المؤثر.. إلي أن ينقضي الوقت.. وينسي الجميع أن تركيا لم تثأر لدمائها وكرامتها.. وأنها حتي الآن لم تقطع علاقاتها مع إسرائيل.. وأن لجنة التحقيق الدولية التي طالبت بها لم تنعقد.. وأن الاعتذار الإسرائيلي المطلوب تركياً عن المذبحة لم يصدر بعد.. وهو للدقة وبمنتهي الواقعية التي تفهمها أنقرة أكثر من غيرها: لن يصدر علي الإطلاق. هذا موقف فارق.. له دلالات عميقة.. ويطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة التصرفات التركية المجملة في الإقليم.. في ضوء الطروح بشأن ما يوصف بأنه (الدور التركي الجديد) في الشرق الأوسط.. حدوده وأبعاده ومراميه.. ذلك أنه يعني أن أنقرة لم تحسم أمرها علي وجه اليقين.. ماذا تريد.. هل ترغب في دور مساند للقضايا العربية.. هل تريد أن تكون جسر وصل بين العرب وأوروبا.. هل تهدف إلي توظيف ذلك من أجل أحلام امبراطورية مجترة من غياهب التاريخ.. أم من أجل دفع مزيد من العرابين لكي تنال رضا الاتحاد الأوروبي حتي تنعم بعضويته الممتنعة.. أو لعل هذا كله ليس سوي غطاء لمساعٍ اقتصادية وتجارية وسوقية؟ علي سبيل الصراحة يمكن أن أصيغ هذه التساؤلات كلها في شكل أكثر مباشرة: هل تريد تركيا دوراً يساهم في حل قضايا المنطقة من أجل أن يعم الاستقرار.. أم أنها تتاجر بالأوراق العربية؟ إن التعامل بالقطعة هو دليل ارتباك مهول.. أو أنه تعبير يظهر أن أنقرة لم تحسم أمرها بعد.. أو أنها تريد أن تحصد كل شيء: عنب الشام وتين إسرائيل وتحالف واشنطن وعضوية حلف الأطلسي وأموال قطر وحلم عضوية الاتحاد الأوروبي.. وإن لم تخطط لبلح اليمن بعد. تتفلطح تركيا، وفق الاستراتيجية المستجدة، في اتجاه آسيا الوسطي، وفي اتجاه البلقان، وفي اتجاه الدول العربية، وبالمرة اقتصاديا في اتجاه أفريقيا.. وباستثناء النطاق الأخير فإن الثلاثة الأول هي فضاءات تاريخية سابقة للامبراطورية العثمانية.. بني عليها وزير الخارجية المنظر الاستراتيجي أحمد أوغلو تصوراته الرومانسية.. قارنًا اياها بما عرف باسم (الخيار صفر).. أي الوصول إلي مستوي الصفر في العداء من الآخرين.. وهو خيار مستحيل في عالم معقد.. ويمكن أن يذبح فيه أصدقاء تركيا مواطنيها.. كما حدث من إسرائيل.. وهو مستحيل كذلك مع الخصم التاريخي في اليونان.. ومع الخصم التاريخي في أرمينيا وحليفها الأذربيجاني.. ومع الخصم الداخلي الكردي. ويقول البعض إن تركيا إنما تمارس تلك التوسعات من أجل أن تظهر قدرتها ومكانتها للاتحاد الأوروبي حتي تحصل علي عضويته.. ويا له من جهد رهيب من أجل جائزة قد لا تساوي تبعات هذا الجهد.. خاصة أن تركيا اليوم ليست هي الامبراطورية العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر.. وقتها كان مثل هذا الفتح الاستراتيجي في الفضاءات المتسعة له مقوماته العسكرية والاقتصادية.. ارتباطاته التاريخية من خلال عمليات غزو أدت إلي خضوع دول بأكملها.. هذا ليس متاحاً اليوم.. تركيا الآن دولة.. لا امبراطورية.. وحين تتصرف الدولة - التي لا تملك المقومات الامبراطورية- علي أنها امبراطورية تحدث مشكلات كبيرة جداً.. أقلها أن تظهر ضعيفة غير قادرة علي اتخاد قرار.. لايمكنها أن تعاقب من قتل أبناءها.. وتكتفي بأن تعاديه بالقطعة.. حسب كل حالة عبور لطائرة إسرائيلية من أجوائها. ونكمل غداً. [email protected] www.abkamal.net