كان انتخاب سكوت بروان المرشح الجمهورى من ولاية ماساتشوستس أكثر بكثير من مجرد نكسة وأقل بقليل من نكبة سياسية للرئيس باراك أوباما: هذه الولاية لم تنتخب جمهوريا منذ أكثر من نصف قرن و اعطت الرئيس اوباما فوزا على خصمه بأكثر من 25 % و انتخبت جورج ماكفرن عام 1972 فى حين ربح نكسون 49 ولاية آنذاك. كان الاعتقاد سائدا أن المرشحة الديمقراطية تصرفت على أن نجاحها مضمون فيما فاجأ فوز المرشح الجمهورى يؤكد أن معضلة شديدة سوف تواجه إدارة أوباما الذى اعترف بأن الغضب الذى كان سائدا عام 2008 والذى ساهم بالمجىء به إلى الرئاسة، هو الآن العامل نفسه الذى جاء بالانتصارات للجمهوريين عام 2009. *** قد يتساءل القارئ العربى: لماذا نكرس اعتبارات السياسة الداخلية على سلوك ومشكلات إدارة أوباما؟ قد يكون السؤال منطقيا ولكن إجمالا وبالأخص فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، فإن من يرسم السياسات واستراتيجيات الدولة هو أولا الرئيس لكن داخل النظام هنالك السلطات التشريعية والقضائية. فالرئاسة وان كانت المؤسسة الاولى بين متساوين، إلا أن تفوق قدرتها النسبية فى رسم السياسات لا يعنى ان الرئيس مطلق الصلاحيات بل يبقى عرضة للمساءلة واحتمال نقض أو اعتراض من السلطة التشريعية كونها بدورها سلطة منتخبة وبالتالى حريصة على دورها المميز. *** فى ظل الظروف القائمة، نجد أن الرئيس أوباما سوف يضطر إلى مراجعة نقدية لأداء إداراته وبالتالى فإن الإرباك الذى ميز ردود فعل أنصاره وحلفائه ينطوى بالضرورة على حاجة ماسة للنفاذ إلى جذور التحول من روعة الإلهام التى ميزت خطابه الانتخابى. هذا التحول الذى بدأ بشعار «تغيير نستطيع أن نؤمن به» إلى حالة القلق السائدة نتيجة ما حصل أو لم يحصل فى العام الأول من عهده. هنا لا مفر من ذكر ما ورثه أوباما من تركة إدارتى بوش السابقتين والتى استولدت معوقات انطوت على تفاقم الأزمات المالية والاقتصادية. فكان التحدى فى بدء إداراته وقف التدهور للحيلولة دون المزيد من تفاقم الأزمة الاقتصادية وإمعانها فى تدهور الأسواق المالية أمريكيا وعالميا وتردد أوباما فى محاسبة الإدارة السابقة على فلتان النظام الرأسمالى وتخفيضها الضرائب إلى الواحد فى المائة من الأثرياء.. لذلك توجه أوباما بشكل قاطع باتجاه وقف المزيد من التدهور والحيلولة دون تنامى العطب فى النظام الاقتصادى والمالى مما أبطأ مباشرته بتنفيذ التزاماته ودفع الكثير من رصيده السياسى والشعبى. كانت مهمته الأولى تكنيس المعوقات والموبئات الموروثة بدلا من تنفيذ فورى لما وعد به الشعب الأمريكى بأن عهده سوف يكون فوق الانقسامات الحزبية. وهذا ما يفسر استعانته بعدد من قيادات الحزب الجمهورى وتسليمهم مهمات رئيسية فى وزارات الدفاع والنقل والمالية والسفارة الأمريكية فى الصين وغيرها. تعامل قادة الحزب الجمهورى فى الكونجرس مع هذا الانفتاح كأنه محاولة لوحدانية سلطة الرئيس وشق المعارضة، فرفضوا التعاون وجعلوا منه مرمى لرجعيتهم والبعض لعنصريتهم. إضافة إلى تهجمات اليمين الشرس المتمثل بانتقادات لاذعة وغير صحيحة قام بها نائب الرئيس السابق ديك تشينى إضافة إلى ظاهرة «حفلات الشاى» التى استنفرت الغرائز البدائية مما عزز تسميم الأجواء وحال دون حوارات عقلانية. كل هذه الأجواء المرضية التى ميزت الخطاب السياسى السائد، جعل من تعميم إنصاف الحقائق تشويهات مقصودة لدوافع السياسات الاصلاحية . وسط هذه الأجواء وإثنائها، تمكن الرئيس أوباما من إيقاف التدهور فى الاسواق المالية وإنقاذ المؤسسات الاقتصادية وتمكينها من خلال الضخ التمويلى فى بداية ولايته مما فسر استرجاع ما استدانه إلى الحكومة. كان أهم انتقاد هو أن أوباما ركز على أولوية تأمين الضمان الصحى أسوة بالدول المتقدمة والتى برغم سلامة وإنسانية دوافع جعلها أولوية والحاجة الملحة إلى تشريعها، إلا أن تزامنها مع أولوية أكثر إلحاحا أى البطالة اعطى الانطباع ان الدولة وشيكة على احتكار السلطة وبالتالى تشكل تهديدا للحريات والتى ساهم الاعلام اليمينى نشره وتعميمه. *** تسود قناعة ان العديد من المصاعب التى واجهها الرئيس اوباما فى العام الاول كان بسبب غياب قيادة الحزب الديمقراطى الموكول اليها توجيه وتعبئة الناخبين وجعلهم بمنأى عن الغارات العقائدية اليمينية التى تهدف إلى افقاد وتشويه حقائق وافتعال ازمات واللجوء إلى تزوير كما حصل فى تصوير قوانين الضمان الصحى المقترحة او اجراء محاكمات مدنية للمتهمين بالارهاب. كل ذلك اعطى الانطباع ان تهديدا لامن المواطن الامريكى اصبح داهما وان اغلاق معتقل جوانتانامو وقرار الرئيس اوباما منع التعذيب تعريضاً للأمن القومى فى وقت لاتزال التهديدات قائمة. إن جميع المبادارات التى قام بها اوباما لم يرافقها تنظيم التعبئة لمناصريه وناخبيه ولا تعميم الوعى عند انصاره مما جعل المحافظين يستسهلون نشر ثقافة التخويف. وتعميم فكرة أن الاصلاح الاقتصادى «دعوة للاشتراكية» كما ان التخلى عن ادوات التعذيب دليل ارتخاء فى حماية امن المواطن والامن القومي. لقد أوجد استبعاد شرائح من مؤيديه من اليسار والوسط حواجز بين البيت الابيض وبين من كان باستطاعتهم مجابهة التشويهات التى تعمد نشرها ناشطو اليمين. من ناحية أخرى لم يتم التواصل بالدرجة المطلوبة مع الشرائح التى ابحرت مع اوباما فى حملته الانتخابية الرائعة. اعتقد ان اعادة النظر فى استرجاع علاقات حوارية مع هذه الشرائح التقدمية سوف تضع حداً للافتراءات التى تلحق الاذى باستقامة المسيرة التى رسم اوباما اهدافها. *** يستتبع ان الناخبين المستقلين لم يعودوا مثلما كانوا اثناء حملته الرئاسية فى علاقات ايجابية وأن خروج معظمهم من التحالف معه كان بمثابة مؤشر على احتجاح هذه الشريحة الهامة على نمط تعامل البيت الابيض مع الكونغرس. كما ساد الانطباع ان تركيزه على اولوية التشريع للضمان الصحى كان على حساب اهمال تحدى البطالة المتزايدة. هذا لا يعنى ان المستقلين لن يعودوا إلى نصرته عندما يباشر اوباما مرحلة تنفيذ استراتيجية اكثر تماسكا من التى مارسها فى العام الاول من ولايته. و لعل الشعار الذى طرحه اثناء حملته الانتخابية «نعم نستطيع» سوف يتحول بالضرورة إلى «نعمل كل ما باستطاعتنا القيام به». *** صحيح ان اوباما باشر بانسحاب القوات الامريكية من العراق وكأنه يصدر حكما تاريخيا على عدم شرعية الغزو، بينما وجد الحرب فى افغانستان متوافر لها الشرعية الأممية منذ أحداث 11 92001 . الآن وقد أرهقت الحرب الملايين من الناخبين الامريكيين، لم يعد من تمييز لديهم بين الحرب غير المشروعة وحرب الحاجة المنسجمة مع القانون الدولى فى افغانستان مما ادى إلى انطباع ان اوباما «رئيس حرب». صحيح ان الرئيس اوباما استمر يؤكد ان ادارته مستعدة وراغبة فى عالم متعدد القطبية واكد احترام الشرعية الدولية والتزام سياسة التنمية المستدامة فى عالم الجنوب. وبادر بتعيين السناتور جورج ميتشل مبعوثا خاصا له فى الشرق الأوسط لم تتح له ولغيره من المبعوثين الفرصة ان يحقق أى من الانجازات التى تلبى طموحاته. يرجع السبب فى ذلك ان الرؤية التى بلورها فى خطابه للعالم الاسلامى فى جامعة القاهرة وقبلها فى البرلمان التركى، كانت أكثر مما تتحمله الاجهزة المتوافرة مثل وزارة الخارجية. لذا اصطدمت توقعات العرب والعالم الاسلامى عامة بواقع آليات تنفيذ عاجزة عن تفعيلها رؤى الرئيس اوباما وبالتالى عاجزة عن ايصالها وترجمتها عمليا مما يفسر ويلقى الاضواء الكاشفة على استمرار الازدواجية بين ما يعلن وما يحصل. تباينت الاسباب للعجز الناتج عن الازدواجية. منها ما يعود إلى انطباع تام ان اوباما اوضح كمفكر وممارس؛ وبعض التفسيرات تعول تردده إلى مزاج يؤكد تجنب المجابهات فى العديد من الازمات. يبدو ان دراسته للبدائل المطروحة امامه تفسر بطء مسيرة عملية اتخاذ القرار، وهذا التردد الذى يميز مقاربته لعديد من القضايا العالقة منذ زمن بعيد، يتسم باللاحسم مما اعطى الانطباع انه كثيرا ما يكون سجين اللاحسم. قد يقال وهذا صحيح إن تراكم ما ورثه من ازمات فرضت عليه اولويات ملحة متزامنة فى الداخل مما قلص فرص تركيزه على اعطاء الوقت الكافى لمجابهة إرث الاجترار الهائل دون الحسم و التجديد. وحتى «يزداد الطين بلة»، جاء قرار المحكمة العليا الامريكية بخمسة أصوات مقابل أربعة يلغى الضوابط القانونية على مدى المساعدات المالية وبالتالى اعطاء الحرية المطلقة للشركات الكبرى ان تمنح ما تريد من مساعدات للمرشحين للانتحابات. شكل قرار المحكمة العليا استفزازاً حادا للرئيس اوباما واعتبره البعض اخطر بكثير من الصدمة الموصوفة بانها كانت اكثر من نكسة.. واقل من نكبة. قرار المحكمة العليا فى يوم 21 يناير يقنن الفساد ويزيد من عمليات إعاقة إنجاز «التغيير». ومع ذلك لعله يؤدى إلى استئناف مسيرة وعد أوباما «بالتغيير» فيستعيد قدرة الاختراق والمبادرة التى عجز عنها حتى الآن.