إنها واحدة من أقدم مدن العالم أُطلق عليها أسماء كثيرة، سماها الكنعانيون «أورسليم» وأطلق عليها اليهود الصهاينة «صهيون» نسبة إلى جبل فيها، وكانت فى عصرها اليونانى تعرف باسم «إيلياء» أو بيت الله، إلا أن اسمها الذى ظل باقيا فى الذاكرة والوجدان فهو «القدس». تلك المدينة التى تتراءى للعديد من الأدباء والشعراء فكانت الحبيبة الملهمة، والوطن المغدور.. جرح مر عليه أكثر من نصف قرن ولم يزل يدمى حتى وقتنا هذا. من هؤلاء مَنْ عاش فى القدس وخرج منها ولم يبرح حنينه إليها، ومنهم من لم تطأها قدماه، إلا أن القدس حاضرة فى ذاكرته وتاريخه، فكانت قضية القدس هى شغلهم الشاغل: سياسيون أو صحفيون أو مؤرخون، بقصد أو بغير قصد حولت هذه الكتابات قضية القدس إلى أسطورة، قامت بأسطرتها كما يقول المنظرون، وتناسوا فى الدفاع عن القضية أنها مدينة بالإضافة إلى قدسيتها أرض، زرع، جدران. هذا ما يتناوله سبعة من الباحثين من مصر وفلسطين اشتركوا فى إعداد كتاب «القدس.. خط أحمر» الذى صدر حديثا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة. والباحثون هم: أسماء الغرباوى، ورانيا عبدالرحيم، وهشام محمد عبدالرءوف، ود. عبدالتواب مصطفى، ونظيمة سعدالدين، وعطا السيد الشعراوى، وعلى رأسهم الكاتب والمؤرخ الفلسطينى عبدالقادر ياسين محرر الكتاب. القدسالغربية، القدسالشرقية، القدس الكبرى، العربية، القديمة ربما تطرح تلك المسميات سؤال: عن أى قدس تتكلمون؟. فى الفصل الأول من الكتاب تستعرض أسماء الغرباوى، التعريف بهذه المسميات لقدسنا العتيقة، لتمر على مشروع تدويل القدس، وموقعها الجغرافى وتضاريسها، ثم تعرج على مشروع القدس الكبرى أو القدس الموسعة، ومحاولة الصهاينة محو هويتها الإسلامية ليحل محلها هوية جديدة تبدو فيها غلبة الوجود اليهودى فضلا عن تطويق الأحياء العربية فى المدينة القديمة وفصلها عن نظيراتها الموجودة خارج السور بغية دفع المقدسيين للهجرة للنزوح خارج مدينتهم. وعن الأماكن المقدسة التى تجرأت أيادى الصهاينة عليها، متعمدين إحداث تغيرات فى معظمها من مساجد وكنائس وأوقاف فلسطينية وتحويلها إلى نواد وملاه، وبعضها نسفوها والبعض الآخر تحول لكنس يهودى، هذا ما خصص الكتاب له بالتفصيل فصلا تحت عنوان «الاعتداءات على الأماكن المقدسة»، والذى رصد تأريخا دقيقا للاعتداءات الهمجية على المسجد الاقصى المبارك منذ انتهاء معركة 1967، تلك الاعتداءات التى مازالت مستمرة حتى لحظة كتابة هذه السطور. ولم تكن كنيسة القيامة ودور العبادة المسيحة المقدسة، بمنأى عن تلك الهجمات البربرية. أما «مسيحيو القدس» فقد تناولتهم أحد فصول الكتاب من جميع الأوجه تقربيا، فنجده يبدأ من مكانة المدينة لديهم مرورا برصد الوجود المسيحى فى القدس مع مولد السيد المسيح، ليتوقف قليلا عند المذاهب والجاليات المسيحية والتى تمثل المذاهب المسيحية فى شتى بقاع العالم إذ يقول الباحثون فى هذا الفصل: «ولهذه الطوائف كنائس وأديرة فى أنحاء القدس منها ما هو موجود فى القدس منذ عهد السيد المسيح عليه السلام ومنها ما هو قديم، منذ العصور الوسطى، وآخرون قدموا فى العصر الحديث، بعد منح الحكومات الغربية، امتيازات من الدولة العثمانية». ويرصد هذا الفصل المكتبات والمستشفيات والجمعيات الخيرية المسيحية والمدارس والمطابع، مع توضيح للعديد من صور الاعتداءات الصهيونية على مسيحيى القدس ومقدساتهم. ولما كانت الأزهار والنباتات الطبيعية «جزء من حياة المنطقة وتاريخها وتراثها الشعبى» استعرض الكتاب فى باب خاص أنواع أزهار ونباتات زهرة المدائن كرمز لهوية الجمال هناك، ولأن تفرد القدس بهذا يرجع لطبيعتها ومناخها وأيضا لاختلاف سماتها السطحية من أودية وهضاب وجبال وبحيرات وأنهار، ما جعلها فريدة فى أرض فلسطين كلها، لذلك سحرت هذه الأزهار الكثير ممن زاروها. ويقول الكتاب: «تقدر نباتات فلسطين بنحو 2700 نبتة برية، منها ما ذكر فى العهد القديم ومنها ما تم تصنيفه قبل عشرات السنين.. فقد شغلت تلك النباتات، ولا تزال اهتمام العلماء والدارسين» وبعض هذه النباتات مستوطن فى القدس منذ القدم مثل اللوف الفلسطينى، منها ما جاء مع القبائل المهاجرة «نبات الخطمية» ومنها أيضا ما كان متطفلا مثل الهالوك والحامول»، أما أكثر النباتات القدسية التى خلبت عاشقى الزهور فهى زهرة «شقائق النعمان» والتى تنبت فى ظلال التلال، «فبين طيات هذا التنوع الهائل ينمو الزهر إلى جانب الشوك كجزء من غنى المتناقضات، ولعل أشهر شوك فى التاريخ، شوك السيد المسيح، والذى لف حول جبينه». وإلى جانب رصد هذا الباب لمعظم النبات فى كل منطقة على حدة من «المرتفعات الشرقية والأغوار الجنوبية ونباتات السهل الساحلى والمنطقة الصحراوية والمستنقعات الملحية وغيرها»، لم يفته رصد الأراضى المصادرة والأشجار المقتلعة والنباتات المهددة بالانقراض مثل العرعر وعيون البقر والخنشاريات أو السراخس. «ستون ألف عربى مقدسى مرشحون لسحب هويتهم فضلا عن المواليد الجدد نحو عشرين ألفا».. هكذا يختتم عبدالقادر ياسين الكتاب محاولا الإجابة عن تساؤل: القدس إلى أين؟! فيعرض لمشاريع الاحتلال التى «تشق طريقها كالسكين فى الزبد، دون أى عوائق تذكر». وتجد ياسين فى هذا الفصل يتلمس التركيز والإصرار من قبل الصهاينة على تهويد القدس منذ «الحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 194» بداية من احتلال القدسالغربية وهجرة نحو ثمانين ألف فلسطينى مرورا باحتلال إسرائيل لما تبقى من القدسالشرقية حتى اكتمال «احتلال المدينة المقدسة موحدة، وعاصمة أبدية لإسرائيل». وبعد أن يعتنى ياسين بتوضيح كيف ضاعت القدس سياسيا وعربيا، حاول طرح عدة حلول يجب أن ينتبه لها كثيرون ممن استكانوا للوضع القائم فى انتظار المخلص، قائلا: «يجب استعادة التضامن العربى للوصول إلى موقف عربى قوى موحد، وتصدير فهم أعمق لطبيعة القضية الفلسطينية باعتبارها قضية تحرر وطنى ذات عمق عربى، دون تضخيم أو تقزيم تبنى برنامجا سياسيا واقعيا يرمى إلى تحرير فلسطين مستقلة ديمقراطية، ويبقى على القدس مفتوحة لكل أهل الديانات السماوية، مع التحضير للحرب وكأننا سنحارب غدا، فمن لا يملك مفتاح الحرب لا يملك مفتاح السلام».