فجأة، أصبحت البرازيل المعيار غير المرجح فى الحملة العالمية لردم الهوة بين الأغنياء والفقراء. فمنذ عام 2003، تمكن نحو 21 مليون برازيلى من الخروج من فجوة الفقر، وهو ما حول الحاصلين على الرواتب المتواضعة تاريخيا إلى الطبقة الاجتماعية المسيطرة فى البلاد. وبحلول عام 2008 كانت البرازيل قد حققت أهداف الألفية للأمم المتحدة التى تم التحدث عنها كثيرا والمتمثلة فى خفض الفقر بنسبة النصف بحلول عام 2015. والأمر ليس مجرد أن الفقراء باتوا فى وضع أفضل اليوم. فهذا هو الحال فى سائر أنحاء العالم النامى حاليا، وذلك بفضل عقدين من النمو العالمى الذى أدى إلى تحسين مستويات الرعاية الصحية فى هذه البلدان. ولكن البرازيل تقف متميزة عن غيرها من البلدان بسبب أن فقراءها يصعدون اجتماعيا بصورة أسرع من أى طبقة اجتماعية أخرى فى البلاد. فبين عامى 2003 و2008، فإن نسبة 10 بالمائة الأغنى فى البرازيل ازدادوا غنى بنسبة 11 بالمائة، فيما لحظت نسبة ال10 بالمائة الأفقر ارتفاع رواتبهم المعيشية بنسبة 72 بالمائة. وقد انخفض انعدام المساواة فى البرازيل بنسبة 5.5 بالمائة منذ سنة 2003. بل إن الأهم هو أن الحراك الاجتماعى إلى أعلى هذا لم يتأثر بالأزمة الاقتصادية العالمية الحالية. فهناك عدد أقل من الفقراء والمعوزين البرازيليين اليوم مما كان عليه الوضع قبل 18 شهرا فقط حين اندلعت الأزمة. فمعدل جينى فى البلاد الذى يستعمله الاقتصاديون لقياس انعدام المساواة هو عند حد 0.580 الآن، وهو الرقم الأقل تاريخيا الذى سجلته البلاد فى شهر يونيو 2008 حين بدأ الانكماش الاقتصادى. (كلما اقتربت النسبة من 1.0 كان انعدام المساواة فيها أعلى). ولكن ذلك يجعل البرازيل فعلا الاستثناء، حتى بين أسرع الاقتصادات نموا فى العالم النامى. وعلى الرغم من أن الصين والهند تنموان بسرعة أكبر، فإن انعدام المساواة فيهما يزداد. والنتيجة هى أن الخبراء بدأوا ينظرون إلى البرازيل على أنها النموذج الأفضل فى الحرب على الفقر. وتعود مكاسب البرازيل هذه إلى سلسلة من الخطوات الذكية التى كانت بدأت فى مطلع التسعينيات من القرن الماضى. فقد أدت حملة جريئة لزيادة التحاق الأطفال بالمدارس إلى إعادة 97 بالمائة من الأطفال الذين كانوا قد التحقوا بالقوة العاملة بالمدارس مجددا. وقد بدأ هؤلاء الآن يقطفون ثمار ذلك على شكل حصولهم على رواتب معيشية أعلى ووظائف أفضل. فى عام 1994 تخلت الطبقة السياسية فى البرازيل عن عقود من الإجراءات الاقتصادية المؤقتة لحل أزمات البلاد ومن الإنفاق غير المحدود الذى كان قد خنق نمو البلاد الاقتصادي، وأفسحت المجال أمام ارتفاع غير مسبوق للأسعار. وقد مهد ذلك الطريق أمام حقبة من الإصلاحات مثل الخصخصة وخفض الحواجز التجارية وسياسات الحصافة المالية. وبالأهمية ذاتها، فإن اليسار السياسى قد عدل مواقفه هو الآخر. فحين أصبح لولا دا سيلفا، وهو زعيم اتحادى زائد الحماس من حزب العمال اليسارى، رئيسا للبلاد عام 2003، لم يكن صديقا أبدا للرأسمالية. ولكنه تعهد بألا يتدخل فى إصلاحات السوق الحر التى ورثها ورحبت بها غالبية البرازيليين. وللمفارقة، فإن تلك كانت تحديدا السياسات التى مهدت الطريق أمام المبادرات التى حلم بها دائما: مد يد المساعدة المباشرة من الدولة إلى المعوزين. وقد ساعد الإبقاء على التضخم منخفضا والإنفاق مضبوطا فى خفض أسعار الفائدة وشجع البنوك على توزيع القروض حتى إلى المستهلكين من ذوى الدخل المحدود. وقد سمح ذلك أيضا للولا بتوسيع دور الدولة، إذ قام بمنح علاوات سخية فى الأجور لأصحاب الدخول المتدنية والمتقاعدين، فضلا عن تقديم الدعومات النقدية الضخمة للفقراء. وقد وسع لولا كذلك برنامج بولسا فاميليا، الذى وسع بموجبه برنامج مساعدات كان قائما من قبل توفر فيه الدولة معونة نقدية شهرية صغيرة نحو 10 إلى 70 دولارا للأسر التى تبقى على أطفالها فى المدارس، وتقوم بزيارات منتظمة لعيادات الرعاية الصحية. الفكرة ليست جديدة، ففى عام 1968، دعا ميلتون فريدمان إلى «ضريبة دخل سلبية» للفقراء على أساس أن الأفراد يستطيعون استخدام هذه المعونات المالية من الدولة بصورة أفضل من الدولة نفسها. وقد تم تطبيق هذه الفكرة أولا فى تشيلى ثم المكسيك، ولكن كانت البرازيل، وبدءا بأواخر التسعينيات من القرن الماضي، هى التى حولتها إلى مؤسسة ضخمة تصل الآن بمساعداتها إلى 55 مليون شخص. هناك منتقدون لمؤسسة بولسا فاميليا. فاليسار المتشدد ينتقدها بوصفها لا أكثر من مهدئ للفقراء بالفتات. واليمين ينتقدها على أنها تزيد من دور الدولة كمربية للأطفال وتشجع الناس على البقاء معتمدين على المعونة. (ربع البرازيليين الآن يتلقون معونات حكومية، ولكن حفنة منهم فقط خرجوا من هذا البرنامج إلى سوق العمل). ولكن وبثمن بخس، فإن هذه البرامج أثبتت أنها طريقة فعالة لمساعدة المعوزين. فتنفق البرازيل أقل من نصف نسبة الواحد بالمائة من ناتجها القومى الإجمالى البالغ 1.6 تريليون دولار لمساعدة ربع عدد سكانها البالغ عددهم 193 مليون نسمة. وقد كانت الفوائد واضحة لهذه البرامج بحيث إن برامج أخرى مقلدة بدأت فى الانتشار. فيقول البنك الدولى إن ما بين 150 و200 مليون شخص فى العالم يتلقون الآن معونات نقدية فى دول مثل نيكاراجوا الاشتراكية وكولومبيا الوسطية، بل وحتى فى الولاياتالمتحدة، حيث يرى رئيس بلدية نيويورك الملياردير مايكل بلومبيرج اليوم منافع فى برنامج تم تأسيسه فى البرازيل من قبل شخص لم يكترث أبدا فى حياته بالسوق الحر.