يستخدم الدكتور بطرس غالى رئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان قوته الناعمة ومكانته الدولية كأمين عام سابق للأمم المتحدة، فى التوعية بقضايا حقوق الإنسان وتعميق مسئولية الدولة والمجتمع حيالها. وما زال لديه فيما أظن أمل يُحسد عليه، بأن إيجاد أرضية صلبة من القوانين يتحرك المجتمع المصرى على أساسها، من خلال توظيف آليات المجلس ولجانه وتقاريره بالتعاون مع جماعات الحقوق المدنية، كفيل بأن يضيق الهوة العميقة الفاصلة بين سمعة مصر المتدنية فى مجالات حقوق الإنسان وبين المعايير الدولية السائدة فى العالم. ولكن هل يتحقق بالفعل تحسن ملموس يُبيض سجل الانتهاكات فى مصر ولو تدريجيًا بمرور الوقت.. وهل هناك فائدة ترجى من جهود التنمية والارتفاع بمستوى التعليم والصحة، إذا ظلت حقوق المواطن وكرامته معرضة لأساليب غير آدمية تجرى خارج إطار القانون وفى ظلام الدهاليز السرية للأجهزة أيا كانت، كما حدث فى واقعة التعذيب الأخيرة فى أبوالنمرس؟ نحن فى مصر لا نعلم غير أقل القليل مما يجرى فى كثير من حالات الاشتباه فى الجرائم السياسية وحوادث العنف.. ولكن حين تنفجر تفاصيل حالات التعذيب بدقائقها المروعة على صفحات جريدة إنجليزية مثل «الجارديان».. يحكى فيها مواطن إنجليزى كيف تعاونت الأجهزة المصرية مع جهاز M15 الإنجليزى فى احتجازه بأحد المعتقلات السرية فى مصر، وتعرضه لأشكال من التعذيب لانتزاع المعلومات عن أنشطته وعلاقاته فى بريطانيا، فلابد أن يصدق المرء كل ما يقال عن إرهاب الدولة، الذى يصنع إرهاب الأوطان ويدمرها. وقد تفجرت تفاصيل القضية بعد أن طالب دافيد كاميرون زعيم حزب المحافظين فى بريطانيا، بإجراء تحقيق شامل فى هذه الواقعة، ليس فقط للتأكد من صحة الادعاءات، التى أدلى بها الإنجليزى المسلم أزهار خان ونشرتها الجارديان، ولكن أيضًا للتأكد من أن «السلطة الأخلاقية» للحكومة البريطانية لم تنتهك! وطبقًا لهذه الادعاءات، فإن الأجهزة المصرية مباحث أمن الدولة والمخابرات اعتقلت المواطن الإنجليزى بمجرد وصوله إلى مصر فى يوليو 2008، لمدة أسبوع، جرى خلاله تقييده من يديه وقدميه، وأجبر على الوقوف عاريًا لساعات طويلة، وتم الاعتداء عليه بالضرب والتعرض لصدمات كهربائية.. وكان المطلوب هو الإجابة عن أسئلة موعز بها من المخابرات البريطانية. مما يدل على أن الأجهزة المصرية حققت شهرة دولية غير مسبوقة فى عمليات التعذيب لحساب الأجهزة البريطانية وغيرها. وبالطبع فهم يعرفون فى بريطانيا معنى «السلطة الأخلاقية» للدولة، التى تحافظ على كرامة مواطنيها.. وهو تعبير فيما يبدو لا وجود له فى القاموس المصرى. ولذلك طالب المفوض الحكومى المستقل لمكافحة الإرهاب بإجراء تحقيق قضائى، كما طالبت اللجنة البرلمانية لحقوق الإنسان فى مجلس العموم بالتحقيق فى دور المخابرات البريطانية M15 فى عمليات التعذيب، وذلك بعد أن رفض ميلباند وزير الخارجية وجماك سميث وزير الداخلية المثول أمام اللجنة للرد على أسئلتها! فى بريطانيا لجنة لحقوق الإنسان فى مجلس العموم، وأحزاب قوية للمعارضة تحتج، وتطالب بالتحقيق مع الحكومة وأجهزتها.. ولدينا للأسف أيضا فى مجلس الشعب شىء من هذا القبيل، وأحزاب للمعارضة مشغولة وفارغة. العالم تجتاحه الآن صحوة ضمير لرد الاعتبار إلى حقوق الإنسان، التى أسهمت إدارة بوش فى إهدارها على اتساع العالم بدعوى مكافحة الإرهاب، وأرغمت دولاً أوروبية حليفة، كما أكرهت دولاً عربية عديدة. من بينها مصر على أن تكون مراكز للتعذيب والتحقيق والاستجواب بأكثر الأساليب وحشية وخارج إطار القانون والعدالة. ويحاول أوباما الآن أن يغسل يدى إدارته من أوزار بوش وانتهاكاته، بالإفراج عن سجناء جوانتانامو وتوزيعهم على حلفائه فى أوروبا ونرجو ألا تكون مصر من بينهم وإن كان الأوروبيون يتساءلون: لماذا لا تحتفظ أمريكا بمشكلاتها لنفسها؟ وحكم التاريخ سوف يسرى على الجميع.. عليهم وعلينا!!