استقرت اقتصاديات الغاز الطبيعى على أولوية استخدامه محليا وعدم تصديره إلا إذا كانت احتياطيات الدولة تسمح بذلك، مثل روسيا التى تضم 24% من احتياطياته العالمية، وقطر التى تضم 14%، وإيران التى تضم 16%. أما مصر التى لا تتجاوز احتياطياتها المشكوك فى تقديرها 1% ويتآكل انتاجها من النفط بسرعة كبيرة، بحيث صارت تغطى العجز فى استهلاكها المحلى بالشراء من نصيب الشريك الأجنبى بالعملة الأجنبية والأسعار العالمية، فلا يصح أن يخرج من أراضيها شىء من الغاز والنفط إلى أسواق التصدير (الشروق 5/2 و22/3 و12/4 و22/4 و18/10/2009). وعلى الطريق الطويل لمعالجة هذا الموضوع الشائك، نبدأ فى هذا المقال بتعريف الغاز الطبيعى الذى يتميز بسرعة الاشتعال والنظافة وضآلة ما يساهم به فى تلويث البيئة، ولذلك يعتبر وقودا مثاليا من الناحية البيئية وبخاصة فى الاستعمالات المنزلية. فما يطلقه الغاز الطبيعى من الكربون لا يتجاوز 0.63 طن كربون عند اشتعال ما يعادل من الغاز طن نفط (Ton of oil equivalent Toe). وبالمقابل فان طن النفط يطلق نحو 0.82 طن كربون بينما يطلق ما يعادله حراريا من الفحم نحو 1.05 طن كربون. وينتج عن كل طن كربون عند انطلاقه إلى الغلاف الجوى نحو 3.67 طن من غاز ثانى اكسيد الكربون CO2. وبذلك لا تتجاوز درجة التلويث بالغاز الطبيعى ثلاثة أرباع التلويث بالنفط ونحو 60% من التلويث بالفحم. ويكاد الغاز الطبيعى يخلو من مركبات الكبريت التى تلوث زيت الوقود (المازوت)، كما تتضاءل فيه نسبة أوكسيد النيتروجين. كذلك لا يحتاج الغاز لعمليات تحويلية قبل استخدامه، مثل تحويل النفط الخام إلى منتجات مكررة مما يحمى البيئة من الملوثات المرتبطة بتكرير النفط، وإن كان يلزم تخليص الغاز من الشوائب فى أجهزة خاصة Gas processing plant. كذلك تساعد طبيعته الغازية على الاتحاد بالهواء عند الاشتعال بحيث لا يتخلف عنه من الملوثات مثلما يتخلف نتيجة لعدم اكتمال دورة الاحتراق فى غيره من مصادر الوقود الحفرى (أول أكسيد الكربون وغيره). ومن ناحية أخرى، لا يهدد الغاز مثلما تهدد به الطاقة النووية من حوادث جسيمة ومن مشاكل دفن المخلفات المشعة والتى يمتد خطرها الاشعاعى لآلاف السنين «الشروق 10/11/2009». والخلاصة أن الغاز يتمتع بخواص بيئية حميدة، مما يجعله يحظى بمساندة أنصار حمايتها. ويتفوق الغاز الطبيعى أيضا من حيث كفاءة الاستخدام على كل من الفحم والنفط فى استعمالات مثل توليد الكهرباء، إذ يستعمل كوقود فى الدورة المركبة (Combined cycle gas technology CCGT) التى يمكن باستخدامها رفع كفاءة التوليد بما يزيد على ثلث الكفاءة العادية لتوليد الكهرباء. ولذلك يتوقع أن يلقى الغاز دفعة قوية نتيجة للاتجاه المتزايد نحو استهلاك الكهرباء، فى وقت تتزايد فيه ندرة النفط (الشروق 9/8/2009)، وتشتد فيه المعارضة العالمية لاستخدام بدائل شديدة التلويث مثل الفحم. كذلك تعتمد بعض صناعات البلاستيك والألياف الصناعية ومنتجات بتروكيماوية أخرى على غاز الميثين كمادة خام Feedstock، وهو أحد مكونات الغاز الطبيعى، وإن كان هناك من المنتجات النفطية السائلة ما يتفوق على الميثين فى الصناعات البتروكيماوية. ومع ذلك يتوقع أن توفر الصناعة البتروكيماوية سوقا متنامية الأهمية للغاز الطبيعى. وفى السنوات الأخيرة أمكن استخدام الغاز الطبيعى كوقود للسيارات، إذ تضافرت الجهود فى صناعتى الغاز والسيارات لتوسيع نطاق استعماله فى قطاع النقل، سواء فى مركبات النقل العام والخاص أم فى نقل البضائع لمسافات قصيرة. وبذلك يمكن أن يساهم استهلاك الغاز فى تحسين الظروف البيئية نتيجة لانخفاض المنبعث من غازات الاحتباس الحرارى (Greenhouse gases (GHG). ويستخرج الغاز من الحقول، سواء كان مصاحبا للنفط فى حقوله Associated gas أو من حقول تنتج الغاز بصفة أساسية مع بعض السوائل التى تعرف «بسوائل الغاز الطبيعى» (Natural gad liquids (NGLs) والتى تستخلص منه وتضاف إلى الزيت الخام لتحسين درجة لزوجته النوعية بخفضها، وهو ما يرفع قيمتها فى أسواق النفط. ويضخ الغاز بعد استخلاص تلك السوائل وبعد تنقيته من الشوائب فى خطوط للأنابيب تحمله إلى حيث توجد أسواقه الرئيسية داخل أو خارج الدولة المنتجة. ومع التوسع فى التجارة العالمية للغاز، واتساع حجم التجارة فى الغاز الطبيعى المسال (Liquefied natural gas (LNG) وبالتالى ازدياد نصيب السوق الفورية Spot market فى تلك التجارة، ظهر عدد من المشاكل، وهو ما سنعالجه فى مقال مقبل. كذلك ظهرت الحاجة لبناء أماكن لتخزين الغاز Gas storage نتيجة لتقلبات الطلب الموسمية، إذ يرتفع استهلاك الغاز لأغراض التدفئة أثناء شتاء النصف الشمالى من الكرة الأرضية، والذى يضم أهم الدول المستهلكة للغاز، بينما يتعذر توسيع القدرة الإنتاجية للغاز ونقله، سائلا أو فى خطوط الأنابيب، لمواجهة الزيادة الموسمية فى الطلب عليه. وفى الحالات التى يزيد فيها انتاج الغاز عن الاحتياجات المحلية أو التصديرية فى دول نفطية، يعاد ضخ الفائض Injection فى حقول النفط للحفاظ على الضغط فيها وتحسين معامل الاستخلاص (أى نسبة ما يستخلص من النفط الموجود Oil-in-place على مدى العمر الانتاجى للحقل). ويتراوح المتوسط العالمى لمعامل الاستخلاص بين 30 40%، وان كان قد أمكن تحسينه فى بعض الحقول برفع تلك النسبة إلى مستويات أعلى. أما ما يفيض بعد مواجهة الاحتياجات المحلية والتصديرية من الغاز ولا يصلح لإعادة حقنه فى الحقول فإنه يهدر بإحراقه وإطلاق مخلفاته الملوثة فى الغلاف الجوى. وقد ظل الغاز الطبيعى حتى نهاية الحرب العالمية الثانية منتجا ثانويا للنفط، ومن ثم لم تهتم اكثر الدول بالبحث عنه مستقلا عن النفط، كما لم تهتم بتقدير ونشر احتياطياته والتى لم تبدأ بصورة منتظمة إلا فى الولاياتالمتحدة عام 1945. غير أن السنوات التى اعقبت الحرب شهدت توسعا سريعا فى استهلاك الغاز الطبيعى فى الولاياتالمتحدة نتيجة للتوسع فى صنع الأنابيب اللازمة لنقله من الحقول إلى حيث تشتد الحاجة اليه فى المدن والمناطق الصناعية. ويمكن اعتبار الولاياتالمتحدة المهد الذى خطت فيه صناعة الغاز الطبيعى واقتصادياتها أولى خطواتها. ومن هنا أخذت أوروبا وباقى الدول التى أقبلت على استخدام الغاز فى ترسم الخطى الأمريكية. ومما يجدر ملاحظته هنا أن دالة الطلب على الغاز تتضمن معاملا قويا للارتباط بين استهلاك الغاز وبين رصيد الأجهزة المستخدمة له Stock of appliances وهو ما يعتبر أكثر دقة فى وصف سلوك المستهلكين فى حالة السلع المعمرة. ففى سلعة كالغاز يمارس السعر أثره بصفة اساسية على معدل النمو فيما يطلق عليه الطلب الجديد Incremental demand أكثر مما يمارسه على المستوى العام لهذا الاستهلاك. فالطلب الاجمالى على الغاز يعتبر غير مرن بالنسبة لتغيرات السعر وذلك لارتباطه بأجهزة معمرة يصعب الاستغناء عنها أو استبدالها فى المدى القصير، وذلك باستثناء الحالات التى يوجد فيها مصدر بديل للغاز وأجهزة مزدوجة الاستعمال تسمح بالتحول من استهلاكه إلى مصدر بديل ومتوافر كما هو الحال فى معدات توليد الكهرباء المصممة على هذا الأساس. أما الطلب الجديد على الطاقة، والذى لم يتقيد بعد بسلعة معمرة، فيعتبر أكثر استجابة لتغيرات سعر الغاز وغيره من أسعار الوقود البديل. ويستخلص من ذلك، بصفة عامة، أنه حيثما يرتبط استهلاك مصدر معين للطاقة بأجهزة معمرة فإن الطلب القديم يظل أسيرا لهذا المصدر ولا يؤثر فيه كثيرا توفر مصدرا آخر للطاقة حتى ولو كان سعره أكثر ملاءمة،وذلك ما لم يكن العمر الإنتاجى للجهاز المعمر القديم قارب على الانتهاء وصار الخيار مفتوحا لاقتناء جهاز جديد. وحتى فى تلك الحالة فإنه لا تكفى جاذبية السعر لتبرير التحول إلى مصدر بديل للطاقة بل ينبغى أن يشارك فى التبرير باقى الظروف الحاكمة.