لماذا لم نعد نغنى للوطن؟ سؤال صار يتردد بكثرة فى الآونة الأخيرة على لسان الكبار والشباب على السواء. فالكبار أسعدهم الحظ أيامهم بازدهار الأغنية الوطنية فاستمعوا وطربوا وشاركوا بشغف فى ترديد أغنيات عبرت بصدق وجمال عن نبض الناس من خلال معان عميقة وكلمات بسيطة. أما الشباب فيتساءلون فى شجن: هل الوطن مرحلة تاريخية يمكن أن تمر وتنقضى، ويذكرها العواجيز وهم يتنهدون حسرة على الزمن الجميل، ولماذا يعيش وطن اليوم أياما جافة باردة لا تنعشها ولا تدفئها، تلك المشاعر التى تدفع المواطن الشاعر المطرب إلى التغنى بحب الوطن والذوبان فى جماعيته؟ فالأغنية الوطنية كتلة عاطفية من المشاعر النبيلة، التى يحملها الفرد للجماعة التى ينتمى إليها بدوائرها التى تبدأ من الأقارب والأصدقاء والمجتمع المحلى بالقرية أو الحى وتنتهى بالمجتمع الكبير بكل أبعاده التاريخية فتشمل حاضر الوطن وماضيه وأمانيه للمستقبل، والجغرافية. فتشمل سهول الوطن وجباله وأنهاره والسماء التى تظلله، بالإضافة إلى البناء الثقافى والقيمى واللغة والدين. وتتجسد فى الأغنية الوطنية حالة من الذوبان الفردى والجماعى فى المجتمع، وفيها يتجلى وعى الفرد بأن أمانه واستقراره واكتمال إنسانيته، هى غايات لا تتحقق إلا فى ظل جماعة إنسانية آمنة ومستقرة تتمتع بالديمومة الجمعية، مما يطمئن الفرد ويزيل مخاوفه من نهايته المحتومة كفرد ينتهى بالموت بعد حياة قصيرة، وذلك بالقياس إلى عمر الوطن الدائم الخالد بإذن الله. وبقدر استقلال الوطن وتمتعه بالحرية والسيادة الكاملة على أرضه وثروته الطبيعية بقدر شعور المواطن بالاستقرار والأمان. وتختلف الأغنية الوطنية باختلاف الدائرة التى ترتكز عليها من حيث الضيق والاتساع، لذا تبدأ الأغنية الوطنية بالعائلة والدوائر الإنسانية الضيقة المحيطة بالفرد فى: وطنى وصباى وأحلامى وطنى وهواى وأيامى ورضا أمى وحنان أبى وصبا ولدى عند اللعب وتتجه الأغنية إلى دوائر أوسع، حتى تشمل البشر جميعا مثل: يا رب بلدى وحبايبى والمجتمع والناس... ده أصلنا الإنسانية والأب واحد يا عالم وكلنا دم واحد ألفين سلام لك يا آدم ويبرز دور الأغنية الوطنية وينتعش فى فترات الصعود الاجتماعى والنهضة فيصبح: مفيش محال والعزم معانا والعلم بينور دنيانا والفكر بيجسد أحلامنا قدامنا شايفينها وشايفانا أما فى وقت الأزمة الاجتماعية والسياسية فتتحول الأغنية الوطنية إلى صيحة تستصرخ يقظة الوطن والمواطن، ليحتشد الكل فى واحد عندما يهتف سيد درويش: «قوم يا مصرى مصر دايما بتناديك خد بنصرى، نصرى دين واجب عليك» «شوف جدودك فى قبورهم ليل نهار من جمودك كل عظمة بتستجار» «فين آثارك يا للى دنست الآثار دول فاتولك مجد وأنت فت عار» وقد مثلت الأغنية الوطنية أهم آليات المقاومة فى ثورة 1919 وعكست صعود الحركة الوطنية واشتعالها وكذلك سكونها وتداعيها، وما انتابها من قوة وما تعرضت له من ضربات وانتكاسات، وما تمتعت به من دعم شعبى جارف، وقد اتسمت الأغنية الوطنية بالملامح الآتية: 1 استلهام العبارات النارية لزعماء الحركة الوطنية كالهتاف الشهير لمصطفى كامل الذى تحول إلى نشيد: بلادى بلادى لك حبى وفؤادى والذى صار حاليا هو السلام الجمهورى لمصر. 2 عرفت الأغنية الوطنية كيف تتحايل على القمع والإسكات والحصار من جانب السلطات التى عانت أيام الاحتلال من قدرة النشيد الوطنى على استثارة ثورة الشعب، وكان على مبدعيها التحايل لتحرير الأغنية من حصار السلطة، فاستخدموا الرموز الشعبية التى يجهلها المحتل ومنها نداء الباعة الجائلين على بضاعتهم وذلك ليحمل النداء رسائل الحب للزعيم سعد زغلول يا بلح زغلول... يا حليوة يا بلح... يا بلح زغلول 3 لم تقتصر الأغنية الوطنية على التغنى بالزعيم سعد ولكنها اتجهت للتعبير عن هموم البسطاء وآلامهم. فصرخت تحمل شكوى الفلاحة المصرية التى تسوق السلطة ولدها إلى الحرب وتستثنى أبناء الأغنياء منها: يا عزيز عينى وأنا بدى أروح بلدى بلدى يا بلدى والسلطة خدت ولدى 4 وعندما يضطر المصرى للهجرة مضطرا للكفاح من أجل لقمة العيش يترك قلبه مغلقا بالوطن ويعود إليه لاهثا عند أقرب فرصة: «صفر يا وابور اربط عندك نزلنى فى البلد دى» «بلا أمريكا بلا أوروبا مفيش أحسن من بلدى» «دى المركب اللى بتجيب أحسن من اللى بتودى» «يا أسطى بشندى» 5 وقد استطاعت الأغنية الوطنية أن تحول قصائد محمود حسن إسماعيل وعلى محمود طه إلى قوة دافعة، من خلال التعبير الصوتى المتميز بالقوة والعذوبة للموسيقار محمد عبدالوهاب، ومن خلال المعادل الموسيقى الذى دفع بالقوة والحميمية فى جنبات القصيدة الغنائية باللغة العربية الفصحى فردد الناس فى حماس: كنت فى صمتك مكره.. كنت فى حبك مكره فتكلم وتألم وتعلم كيف تكره ليهتفوا بأنهم قادرون على تحرير الوطن بالتضحية والفداء: أنا يا مصر فتاك.. أنا.. أنا.. بدمى أحمى حماك ودمى ملء ثراك.. أنا.. أنا ومن الجدير بالذكر أن لحن هذه الأنشودة قد صار المقدمة الموسيقية لنشرة الأخبار فى الإذاعة حتى يومنا هذا، وللحديث بقية.