للسينما التسجيلية فى مصر تاريخ وطنى مشرف، فهى الأسرع والأعمق والأقوى فى الاستجابة للأحداث الكبرى، والكثير من إنجازاتها أصبح جزءا من ضمير الأمة، وبعض فنانيها كانوا أقرب للفدائيين، فأثناء العدوان الثلاثى عام 1956، أدار المخرج الرائد، سعد نديم، معركة ناجحة من القاهرة، كان فرسانها المصور القدير، حسن التلمسانى، الذى تسلل إلى مدينة بورسعيد الصامدة، المحتلة، ومعه مساعدوه محمد قاسم وأحمد عطية، وهناك رصد معالم الدمار الذى أحدثته غارات العدو، ولكن لم يفته وهو يصور جثث الشهداء والأجساد الجريحة فى المستشفيات، أن يؤكد عزم مدينة على المقاومة والبقاء على قيد الحياة. نزل التلمسانى إلى الشوارع، سجل خطوات الأطفال وهم يبحثون عن الماء، وأمهات يحملن مواليدهن وقد ارتسمت على وجوهن ملامح التحدى، وفورا، ما إن عاد التلمسانى بحصاده الثمين حتى تفرغ له سعد نديم ليحوله لفيلم «فليشهد العالم» الذى طبع منه مئات النسخ، وعرض فى معظم أنحاء العالم، بما فى ذلك إنجلترا نفسها التى كتبت صحافتها، فى اليوم التالى لعرضه «امنعوا رائحة العار عن بريطانيا»، و«عبدالناصر فتح جبهة أخرى بهذا الفيلم». عقب حرب 67 مباشرة، انطلقت موجة من الأفلام التسجيلية، معززة بأسماء جديدة، امتزجت بروحها الشابة مع خبرة جيل الآباء، وتوالت عشرات الأفلام البناءة التى تستنهض الهمم، وتؤكد أن الانتصار على العدو سيأتى حتما، وجاء بيان «اتحاد السينمائيين التسجيليين» مستوحيا لتلك الأفلام، مشيرا إلى الاتجاه العام للمبدعين التسجيليين، حيث يعلن «هدفنا هو قيام حركة واعية للسينما التسجيلية تسهم فى خلق ثقافة وطنية متفتحة على كل ما هو أصيل وإنسانى وتقدمى». لاحقا، مع حرب أكتوبر 73، قدمت السينما التسجيلية ما لم تقدمه من قبل أو من بعد: أساليب جديدة فى السرد، استخدامات مبتكرة للصور الفوتوغرافية والمشاهد الأرشيفية، آفاق واسعة فى الرؤية، ومن بين هذه الأفلام المتميزة ينهض «أبطال من مصر» الذى حققه أحمد راشد كجوهرة أصيلة لاتزال تشع بالضياء، فبعيدا عن النزعة الخطابية الطنانة، يقدم الفيلم عالم الشهيد «فتحى عبادة»، يذهب راشد مع مصوره الأثير سعيد شيمى إلى قريته، تسير الكاميرا فى حاراتها الضيقة الملتوية فندرك أننا فى واحدة من آلاف القرى التى لم يكتب اسمها واضحا فى الخرائط. داخل بيته المتواضع نلتقى أفراد أسرته: والده، عامل الرش، والدته، العاملة بوزارة الصحة التى تقول، بصدق: إنها ربت ابنها من «اللحم الحى» حتى يستكمل تعليمه الجامعى، وبحنو، تقترب الكاميرا من وجه الأب الملىء بتجاعيد لها سحرها، يقرأ بروحه سطورا من خطابات ابنه التى كتبها من قلب المعارك، ويتهدج صوت الأم، من دون بكاء وهى تقول إن ما يؤلمها هو فراقه. هنا ندرك أن هذه الأسرة، ومثيلاتها، هم أبطال مصر.