لم يكتف القدر بأن يخرج من رحم ثورة 1919 زعيم الأمة سعد باشا زغلول وآلاف الشباب الوطنى الذين أثروا الساحة الشعبية بورود وأزهار مشبعة بالشجاعة والفدائية وتفوح منها رائحة الحرية والرغبة فى الاستقلال والكرامة.. بل أضاف هذا العام المجيد إلى سجله المشرف يوماً خاصاً خرج فيه إلى النور مولود جديد يحمل بداخله جينات الإبداع والرومانسية وحلم الوصول إلى كرسى «المخرج السينمائى» خلف الكاميرا.. إنه 28 أكتوبر عام 1919.. يوم أن أنجبت الحياة رائد الرومانسية فى السينما المصرية الفنان عزالدين ذوالفقار. ويبدو أن دماء ثورة 19 قد امتزجت بدماء الجنين وقتذاك، فتولدت داخله مشاعر فياضة بالوطنية صقلت إدراكه وشخصيته على مر السنين وبتراكم الأحداث الوطنية والسياسية فى تاريخ مصر.. وبعد أن تجاوز مرحلة الصبا المبكر والمراهقة قرر أن يصارع المستعمر الأجنبى بالأيدى وشارك فى أكثر من خناقة، دفاعاً عن أبناء بلده مثل الراقصة «بيا عزالدين» والمطرب «محمد عبدالمطلب» وقتل وأصاب عدداً لا بأس به من الجنود الإنجليز. وكان الشاب الوطنى «عز» طالبا متوفقاً، وينفق أمواله على شراء الكتب ومشاهدة الأفلام السينمائية التى صار أحد روادها فيما بعد وقدم 33 فيلماً روائياً منحها إحساسه وعمره القصير الذى لم يكمل ال44.. هذه الأفلام ليست مثل باقات الورود نضعها على قبره فى ذكرى رحيله أو بمناسبة تكريمه.. ليست زهوراً لها من العمر يوم أو بعض يوم وتذبل بعده لنستبدلها فى الذكرى التالية بزهور أخرى، لكنها مصابيح مضيئة دوماً.. تستمد طاقتها من شمس الصباح التى أحبها وشمس الغروب التى عشقها وشمس الإبداع التى لا تعرف المغيب. ودفعت الروح الوطنية عزالدين للالتحاق بالجيش ليتخرج فى الكلية الحربية ضابطا مشهودا له بالكفاءة والانضباط.. ويصل إلى رتبة نقيب وتختاره الأقدار للسينما ليغير مصير حياته ويضيف الكثير إلى حياتنا. وبداية المشوار السينمائى ربطت عزالدين ذوالفقار بالمخرج الراحل كمال سليم رائد الواقعية المصرية، حيث تولدت بينهما حوارات فى الفكر والأدب، وقال له كمال سليم: «إن تكوينك الأدبى والفكرى هو تكوين مخرج سينمائى».. إلا أن الشاب عز لم يتحمس لدعوة كمال سليم له بأن يبدأ بالتعرف عن قرب على مفردات السينما، وظلت علاقته بالسينما علاقة «هاو» يشاهد بعض الأفلام لكنه لايزال يفضل القراءة فى علوم الفلك والقصة ويحب السينما دون التفكير الجدى فى احترافها والتربح من ورائها. وكانت نقطة التحول فى تغيير المسار عندما رحل كمال سليم عام 1945 وشاءت الأقدار أن يرحل أيضاً والد عز فى نفس العام ليفقد الشاب المتفجر بالوطنية والمشاعر المرهفة صديق القلب «الوالد».. ورفيق العقل «كمال سليم».. ولم تجد أحزان عز سوى عيادة الطبيب النفسى لمحاولة تفريغها والخروج من محنته التى بلغت حد اعتزال الناس والحياة. وكانت نصيحة الطبيب النفسى هى أن يغير عز مجرى حياته.. فكان البحث عن الاتجاه الجديد لضابط دخل الجيش ووهب نفسه للدفاع عن الوطن، وظهر طوق النجاة من أزمته النفسية فى دعوة أخرى من المخرج «محمد عبدالجواد» مساعد الراحل كمال سليم، الذى كان هو الآخر عضواً فى جلسات «عز» و«كمال»، وجدد الدعوة إلى «عز» لأن يعمل بالسينما، وبدأ بالفعل العمل كمساعد مخرج مع «محمد عبدالجواد» ولا أحد يتخيل وقتها أن «محمد عبدالجواد» أصبح بعد ذلك مساعداً لعز فى العديد من الأفلام!! ويبدو أن ظاهرة «الثورات السياسية» ملازمة لشريط «مشوار عز الدين ذوالفقار»، فإذا كانت ظروف الولادة والنشأة واكبت ثورة 19 وصاغت حسه الوطنى بالفطرة، فإن ثورة يوليو 52 كان لها دورها فى استنفار ملكاته الإخراجية وإثراء توجهه الفكرى والفنى والسياسى، وهو التوجه الذى أفرز لنا «بورسعيد» و«رد قلبى» اللذين أخرجهما عام 1957 ونشيد «وطنى الأكبر» الذى أخرجه عام 1960 مع بداية إرسال التليفزيون المصرى.. وبمرور الوقت أكد عمق موهبته الاستفتاء الذى أجرته إحدى المجلات فى نهاية الخمسينيات عن أفضل المخرجين ومن بين 2000 صوت حصل «عزالدين ذوالفقار» على 1140 صوتاً بنسبة 57٪، وتتابعت الأسماء بمعد ذلك بفروق شاسعة. ومن أبرز ملامح تفوق وتميز «عزالدين ذوالفقار» أن أفلامه حطمت عدد أسابيع العرض، حيث إن فيلما مثل «رد قلبى» 1957، استمر عرضه 6 أسابيع فى القاهرة و5 فى الإسكندرية.. علماً بأن الحد الأقصى للأفلام الناجحة 4 أسابيع فى القاهرة و3 فى الإسكندرية. وفى دلالة أخرى على قيمته الفنية وسط أبناء جيله.. وصل أجر «عزالدين ذوالفقار» إلى 5 آلاف جنيه فى الوقت الذى كان أعلى أجر المخرج لا يتجاوز ال3 آلاف، مع ملاحظة أن فنانة بحجم «فاتن حمامة» التى كانت تحصل على أعلى أجر بين النجوم والنجمات لم يتجاوز أجرها فى ذلك الوقت رقم ال5 آلاف جنيه.