عندما صرح الرئيس السادات أنه يريد توصيل ماء النيل لإسرائيل، وجد الكاتب الروائى فؤاد حجازى ضرورة ملحة فى أن يحكى للصغار قصة النهر التى لا يعرفون عنها الكثير، فكتب رواية «حلوان شامة» للأطفال، معتبرا أن النيل هو أصل الحياة فى مصر وأن حب النهر هو جزء من عشق الوطن. تماما مثلما تتناول الآداب العالمية أنهارها الكبرى مثل السين والراين والمسيسيبى وتحرص على تخليدها فى أدبياتها. وبالمثل كانت تجربة هزيمة 5 يونيو التى مرت ذكراها الثانية والأربعين منذ أيام والتى كان حجازى أحد أبطالها وضحاياها فى الوقت ذاته، حيث تدور روايته «الأسرى يقيمون المتاريس» عن تجربته فى سجن «عتليت» الإسرائيلى بعد أن تم أسره فى نكسة 1967، والتى تتميز بكونها شهادة تاريخية حية كتبها صاحبها من قلب المقاومة، وانتهى من كتابتها فور خروجه فى يناير 1968 ونشرت أول مرة فى 1976 وأعادت دار الشروق أخيرا طبعها ضمن سلسلة «نصوص متميزة» التى «تعنى بنشر النادر والمنسى من الأدب المتميز والممتع والذى شكل علامات مهمة فى مسيرة الأدب العربى الحديث»، كما يرد على أغلفة السلسلة. وهى بالفعل نص متميز من الضرورى أن تقرأه الأجيال الجديدة التى لا تعرف من الهزيمة سوى شذرات من نوعية «انكسار جيل 67»، أو «الكتاب الذين تأثروا بالنكسة»، أو من خلال ما يعيد بثه جهاز التلفزيون من أفلام فى ذكرى الهزيمة تماما مثلما يحدث فى ذكرى نصر أكتوبر أو فى المناسبات الدينية. وأهمية قراءة مثل هذه النصوص التى تعد من «أدب المقاومة» أو «أدب الحرب» أو «أدب الشهادة» مع احترام الاختلافات بينها ضرورية على عدة مستويات، منها أن يعرف المصرى تاريخ بلده وتكوين مجتمعه تماما مثلما يحدث فى العالم أجمع حين تتناول الأدبيات الغربية الحرب العالمية الأولى والثانية أو يتناول اليابانيون آثار قنبلة هيروشيما أو يقرأ الأمريكان حرب بيرل هاربر ويعاد إنتاجها بصريا. وهى معرفة تحصن القارئ ضد كل الادعاءات التى تحيط به، فالقارئ لرواية فؤاد حجازى العلامة يتعرف على الوجه الحقيقى والقبيح للعدو الإسرائيلى التاريخى وكيف كان ومازال يتعامل مع الأسرى بصورة لا إنسانية متحديا ومتجاوزا القوانين الدولية، فيعلق الراوى على وحشية المعاملة قائلا: «طلبنا تطبيق معاهدة جنيف الخاصة بالأسرى علينا. نحن واثقون بأن أسراهم يعاملون فى بلدنا على أنهم «خواجات» وهنا يعاملوننا وكأننا «فلاحون أجلاف». معرفة هذا التاريخ إذن هى الحصن والكاشف لخطاب مثل خطاب أوباما فى جامعة القاهرة الذى أظهر فيه بوضوح تحيز أمريكا الثابت وتشجيعها الأبدى لسياسات إسرائيل حتى وإن قرأ علينا أوباما بما يملكه من جاذبية القرآن كاملا، وليس مجرد استشهادات مختارة من آيات الذكر الحكيم. ينجح الكاتب بسرده الشيّق وحرفيته الأدبية العالية أن يجسد لك المعاناة اليومية التى عاشها مع زملائه فى سجن العدو، ينجح فى أن يجعل الدم يغلى فى عروقك حين تقرأ كيف تم تقييد الجرحى عنوة وشحنهم فى عربات خالية من الأوكسجين هى فى الأغلب عربات نقل القمامة، ثم تكديسهم فى قطار هو أشبه بقطار الموت، حيث تحمل العربة الواحدة 180 رجلا بدلا من 20، تفرى فيها أجساد الجرحى بعضها بعضا، ويصور لنا بالوصف الحى المتدفق أيامهم فى السجن وحرمانهم من كل شىء بدءا من ماء الشرب الذى يتاح فتح محابسه فى زمن قياسى لا يكفى كل المساجين، مرورا بحرمانهم من تضميد جراحهم ومن الحد الأدنى من الطعام الذى يساعد على التئام الجروح ومن الملابس النظيفة ومن الاستحمام، حيث يصور حجازى مشهدا باكيا ضاحكا يصف فيه كيف اعتادوا على قذارة الملابس مع غياب المياه وانتشار القمل فيما بينهم، وكيف كانوا يخجلون من مصارحة بعضهم بالأمر حتى أصبحوا جميعا ضحايا الحشرة اللعينة التى كان يلقبها زميله زكريا الذى لا يوفر روحه الساخرة ب«اللوزن» ويصدر نشرة مسائية عن أحوال اللوزن فى عنبرنا وفى العنابر الأخرى». والمعروف أن أدب الشهادة قد حظى بمكانة عالية فى الدراسات التاريخية والاجتماعية فى الآونة الأخيرة، حيث يثير اهتمام الباحثين فكرة إعادة قراءة التاريخ من خلال الشهادات الأدبية وليس من خلال التاريخ الرسمى الذى تمليه المؤسسات الرسمية، أما فى حالة رواية فؤاد حجازى فهى ليست مجرد قيمة تاريخية تعتمد على تقديم شهادة حية ونص موثق، لكنها فى نفس المقام نص أدبى فريد. لا يتحول النص إلى خطاب حماسى عن المقاومة أو ذكر لمحاسن الجيش المصرى فى مقابل بشاعة الإسرائيلى، لكنه يتوقف عند تفاصيل الحياة اليومية حين يصبح القمع اليومى موضوعا للمقاومة، فينتصر الأسرى فى الحصول على صابونة لكل عشرة أشخاص ثم لكل خمسة، وأخيرا صابونة لكل شخص أسبوعيا، مثلما انتصروا بعد إضرابات واحتجاجات فى فتح محبس الماء طول النهار يستحمون ويشربون وقتما يشاءون. تقترن الوقائع بأدب السيرة، فلا يقوم الكاتب بالتهويل وادعاء البطولة بل تتداخل الأحداث الجسام مع المآثر والفكاهة والمواقف الطريفة، فى مشهد أثير، يسرد حجازى كيف يتبدى الضوء وسط الظلام الحالك حين كانوا مكومين فى القطار يلوح لهم الحراس بالمياه ويرشونها على وجوههم دونما أن يمكنوهم من قطرة ماء، فإذا بزميله يلكزه فى كتفه ويعطيه قطعة خبز كان قد نجح فى أن ينجو بها من التفتيش، تلك القطعة التى أمدته بقوة غريبة، وكيف نجح آخر فى تسريب سيجارة تقاسمها معظم المدخنين من الأسرى. «رغم البؤس والاحساس الجنائزى الذى يسيطر على الجميع، رنت ضحكاتنا، وشغلنا عما نحن فيه بالزملاء وهم يحكون كيف ضحكوا عليهم وخبأوا بضاعتهم. فمنهم من ألقاها أرضا عند التفتيش، ثم التقطها فى براءة الأطفال، كأنه يلتقط منديلا سقط منه. ومنهم من أمسكها بإحدى يديه ورفعها مع الثانية إلى أعلى. ومنهم من سرق من طعام الحراس فى معسكر التجمع فى رفح». إنها تاريخ الحياة اليومية والشهادة الحية التى لا توازيها مجلدات التاريخ. لفؤاد حجازى نحو ثلاثين كتابا، فى الرواية، والقصة القصيرة والمسرح، والنقد التطبيقى والسيرة الذاتية، أصدر تسع روايات، هى: «شارع الخلا» (1968م)، و«نافذة على بحر طناح» (1972م)، و«المحاصرون» (1972م)، و«رجال وجبال ورصاص» (1972م) و«الأسرى يُقيمون المتاريس» (1976م)، و«العمرة» (1977م)، و«القرفصاء» (1978م)، و«متهمون تحت الطلب» (1982م)، و«عنقودة وسمرة» (1996). كما أصدر ست مجموعات قصصية، هى: «سلامات» (1969م)، و«كراكيب» (1970م)، و«سجناء لكل العصور» (1977م)، و«الزمن المستباح» (1978م)، و«النيل ينبع من المقطم» (1985م)، و«كحكة للصبى» (1990 م).