بقيت أيام معدودة على موعد عقد قمة الدوحة العربية، والتى تتزامن مع تطورات غاية فى الأهمية ابتداء من محرقة غزة وتداعياتها، وصعود اليمين الإسرائيلى المتطرف، ووجود رئيس أمريكى جديد جار تشكيل توجهاته، وأزمة مالية عالمية، قلصت من فرص المغامرات العسكرية المكلفة، وحالة من التشرذم العربى تدعو للقلق الشديد، وليس من المبالغة القول إننا ما لم نتدارك الأمر بحسم وجدية، سنجد أنفسنا أمام مرحلة «خسوف» نظامنا الإقليمى العربى إن لم يكن «احتضاره»، ولن يكون أحد فى مأمن من تداعياتها. ولسنا هنا بصدد التقويم السياسى لنظامنا الإقليمى، إلا أنه يمكن القول إجمالا إنه فقد جانبا كبيرا من مناعته ومصداقيته وفاعليته بفعل تراخى أعضائه، وكدنا نصبح «رجل المنطقة المريض» الذى تتكالب على جسده القوى الإقليمية والدولية، وأصبح أشبه برجل مصلوب معصوب العينين، تكال له الضربات تلو الضربات دون أن يستطيع الدفاع عن نفسه، رغم كل مصادر القوة العربية من حوله. وهو وضع شجع إسرائيل على الاستهانة بكل العرب، فأقدمت على ارتكاب محرقة غزة، واستمرارها فى تهويد القدس والاستيطان، دون خشية من ردود الفعل العربية، إن وجدت. ولقد كان من بين أهداف إقدام إسرائيل على القيام بمحرقة غزة، دفع مصر للدخول فى مواجهة غير محسوبة مع إسرائيل، بغض النظر عن حسابات مصر والخيارات المتاحة أمامها، بإجبار الفلسطينيين على النزوح إلى سيناء ثم عدم السماح لهم بالعودة، كما حدث بعد حربى 1948، 1967، لاستكمال تنفيذ المخطط الإسرائيلى، بتصفية أجزاء أخرى من القضية الفلسطينية، وهو ما كشف عنه «عوزى أراد» مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلى فى مؤتمر هرتسيليا 2008، لاسيما أنه تم فى هذه الغارة استخدام القوة العسكرية المفرطة فى قطاع أعزل ومكشوف على مدى أسبوعين. ولكن الفلسطينيين وعوا دروس النزوح التى حدثت فى الماضى، واستبسلوا فى الصمود على أرضهم. وما أشبه الليلة بالبارحة. فلعلنا نتذكر أن إسرائيل عندما أرادت إفساد أجواء للتقارب لاحت بين الولاياتالمتحدة ومصر (عبد الناصر)، قامت بغارتها على قطاع غزة فى فبراير 1955، وكانت من العنف الذى جعل «ارسكين شايلدرز» يصفها بأنها من أسوأ ما حدث بين العرب وإسرائيل منذ 1949، مما دفع عبد الناصر للقيام بعقد صفقة الأسلحة التشيكية، وحمله فيما بعد على الاتجاه إلى الاتحاد السوفييتى لطلب المزيد من السلاح، وكان ذلك خيارا صعبا لا بديل عنه، ودخلت المنطقة معه إلى مرحلة الاستقطاب وتدويل قضاياها، فحققت إسرائيل جانبا من أهدافها من هذه الغارة. ولسنا فى وارد توصيف الواقع العربى المرير الراهن، ولكن ما أود قوله هنا إن الصورة ليست قاتمة تماما. فعلى الرغم من كل المحاولات التى قامت وتقوم بها إسرائيل والولاياتالمتحدة لإعادة تشكيل النظام العربى بما يتواءم مع متطلبات الأمن الإقليمى لإسرائيل ومصالحها، بإقامة نظام شرق أوسطى يحل محله ويسلبه هويته وينتهك ثوابته ويبدد مقوماته، لم تنجح، رغم استخدام القوة العسكرية المفرطة أكثر من مرة لفرض خريطة جديدة للوطن العربى. ونود طرح عدد من الرؤى للتأمل أمام القادة العرب قبل قمة الدوحة فى مقدمتها: الإسراع باستكمال دائرة المصالحة العربية القائمة على تفاهمات مبدئية نتجاوز بها ما أصُطلح على تسميته بوضع «الإخوة الأعداء» أو «الأعدقاء»، على حد قول البعض. وكم نتمنى أن يعود من جديد محور القاهرةالرياضدمشق، فالأهداف واحدة، وإن اختلفت الاجتهادات، فكلنا فى قارب واحد. ضرورة إعادة اللحمة للصف الفلسطينى، ودعم صمود أهل غزة الذين تعرضوا لأبشع أنواع المحارق على يد النازيين الجدد، وألا نسمح بأى شكل من الأشكال باستمرار المهاترات بين الفصائل الفلسطينية، التى كلفت الشعب الفلسطينى الكثير من الدماء والشهداء، من أجل الصراع على سلطة وهمية جوفاء، فالكل مُستهدف. لقد كانت الإدارة الأمريكية السابقة وإسرائيل تتحدثان بصورة علنية ومتواصلة بل فاضحة، عن سعيهما لإعادة رسم خريطة المنطقة العربية لإقامة شرق أوسط جديد، يخدم مصالحهما بشكل أساسى. أما الآن وقد رحلت هذه الإدارة غير مأسوف عليها، ألم يحن الوقت لتجاوز تقسيمنا الملتبس إلى «عرب ممانعة» و»عرب اعتدال»، الذى تم معه استعادة أحد صور الحرب الباردة العربية العربية؟! وليكن شعارنا فى القمة القادمة هو «التضامن والصمود». هل يعقل بعد كل المحارق التى ارتكبتها إسرائيل فى منطقتنا وتشريد وقتل الآلاف من أبنائها، أن نظل تحت وهم الاعتقاد لما روجت له إسرائيل وأمريكا من اعتبار إيران الخطر القريب وإسرائيل الخطر البعيد؟. لماذا لا تفكر الدول العربية وإيران رغم كل تجاوزاتها فى التوصل إلى نظام أمن إقليمى توافقى جديد فى منطقة الخليج يضم جميع دول المنطقة بلا استثناء، ويستند لمفهوم «توازن المصالح» ويبتعد عن مفهوم «توازن القوى» الراهن؟، على نسق صيغة مجموعة «الآسيان» أو غيرها، مع تعزيزها بضمانات دولية قوية، ودون إنكار للمصالح الدولية فى أمن الخليج. إن الأمر أصبح يستوجب موقفا عربىا منسقا بل وموحدا للتعامل مع إيران كصديق محتمل. إن أى بحث موضوعى ومنصف لأسباب دوامة الصراعات والحروب الإقليمية التى غرقت فيها منطقتنا لأكثر من خمسة عقود، واستنفاذ قوى دولها ومواردها، يدرك أن الولاياتالمتحدة كانت وراء كل هذه الأزمات وغذتها بالاستعانة بمطرقتها العسكرية (إسرائيل)، والمعايير الأمريكية المزدوجة والتى جعلت منطقتنا حقل تجارب لتطبيق قرارات الشرعية الدولية، والتى وصلت إلى حد التهديد بجلب بعض رؤسائنا أمام محكمة الجنايات الدولية، بينما تعفى إسرائيل من كل هذه القرارات والقوانين، فإلى متى ستظل منطقتنا وحدها مفرخة للأزمات والعقوبات؟ وإلى متى نستمر فى الرضوخ لهذه المهانة والاستهانة بنا؟. ألم تتمرد دول أمريكا اللاتينية على هذا النمط من التعامل الأمريكى، وهى الواقعة فى الحديقة الخلفية للولايات المتحدة؟. هل سنستمر فى الخضوع المهين للإدارة الأمريكيةالجديدة؟. آن الأوان للتصدى لهذه الاستهانة بالعرب، وأن نقول «كمجموعة عربية» للإدارة الأمريكيةالجديدة.. كفى. التفكير فى إعادة النظر فى مبادرة السلام العربية. فكما أوضح خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، أنها لن تظل مطروحة على الطاولة إلى الأبد. ولعل فرصتها الأخيرة هى بطرحها أمام الإدارة الأمريكيةالجديدة، وفى الوقت نفسه علينا التفكير من الآن فى بدائل هذه المبادرة، ولعل فى مقدمتها احتضان كل أنواع المقاومة المشروعة للاحتلال، فالاحتلال بلا مقاومة، سيكون بمثابة دعوة مفتوحة لبقائه وتوسعه. ولا نقصد بالمقاومة قصرها على المواجهة المسلحة فقط، بل تمتد إلى كل أشكال العصيان المدنى والمقاومة السياسية، وفى مقدمتها مثلا استثمار محرقة غزة بكل أبعادها الإنسانية والقانونية والسياسية، لتعرية إسرائيل وكشف صورتها الحقيقية المضللة أمام كل المحافل الدولية ونُبقى على ورطتها الراهنة وملاحقتها دوليا، ونجعل لعدوانها ثمنا باهظا. نحن مطالبون كعرب بأن نغير موقفنا من أنفسنا حتى يغير الآخرون موقفهم منا، ونترك اليأس من أوضاعنا جانبا، فهو ليس قدرا محتوما وخيارا وحيدا، المهم أن نعرف من أين نبدأ!!. وما زال لدينا بعض الأمل فى قادتنا، وأن تجئ قرارات قمة الدوحة على مستوى التحديات، وحتى يكون للعرب حلم له مستقبل. وما أصدق قول الشاعر: تنبهوا واستيقظوا أيها العرب فقد طمى السيل حتى غاصت الركب