طبقا ل«ميلان كونديرا» فإن كل عمل أدبى ينطوى على رؤية مضمرة لتاريخ الرواية، وعلى فكرة عما هى الرواية، ويمكن هنا إضافة أن كل عمل أدبى ينطوى أيضا على فكرة عما هو تاريخ العالم، الزائف والحقيقى، الواقعى والأسطورى، الهمجى الوحشى والمثالى اليوتوبى، اشتباكا مع صورة الإنسان بمتناقضاته وهمومه وطموحاته وقضاياه وخيالاته كذلك، ومن هنا يكون كل عمل روائى عالما مستقلا، أو رؤية مغايرة لمفهوم كل منا عن العالم. فى رواية «الطريق إلى تل مطران» للروائى العراقى «على بدر» والتى صدرت أخيرا طبعتها الأحدث عن «دار الشروق»، نلمس مقاربة مستفيضة لهذا الكلام، ذلك لأن الاشتباك البانورامى المركب لرواية «على بدر» مع تاريخ الفن الروائى، يكشف عن عوالم ومداخل ووظائف جديدة لهذا الفن. كما يجدد أو ينعش مناطق كان يعتقد أنه تم تجاوزها، كتقنية الوصف المستفيض والتصوير السينمائى، والخيار الذهنى فى تفسير مجمل القضايا والأحداث التى ينبنى عليها النص. هذا الخيار المدعوم برؤية الكاتب لوظيفة الرواية إذ يعتبرها «بدر»: «البديل الحقيقى عن المشروع البحثى، بكلمة أخرى هى البديل الحقيقى عن العلوم الإنسانية، وستثبت الأيام المقبلة صحة رأيى، حيث ستنتهى العلوم الإنسانية إلى علوم سردية، تجعل من السرد منهجها». تقوم رواية «تل مطران» على مجموعة من الأفكار الفلسفية «النيتشاوية» نسبة إلى نيتشة عن وجود الإنسان ووظيفته، عن الخير والشر، والجبر والاختيار، عن الرجل والمرأة، والفساد والأخلاق، عن الفلاسفة والشعراء والأنبياء والعامة والحثالة، والصراع القدرى بين كل منهم. كل ذلك منثور وفق تقنيات سردية متعددة أقلها الحوار، بينما تزخر بتقنيات الوصف والسرد والمونولوج الداخلى والحلم والفلاش باك، فى محاولة لاستيعاب كل هذه الينابيع الفكرية فى إطار روائى فنى. على أن كل ماسبق لا يعنى غياب الحكاية أو الحدوتة المركزية التى تدور فى فلكها كل هذه الأفكار وتؤطرها فى آن، فالرواية محكية ومحبوكة بشكل درامى يقربها من الروايات البوليسية أو روايات المغامرات، وهى بالفعل تنطوى وفقا للأديب السعودى «عبدالله إبراهيم» على مغامرة سردية، إذ يرحل البطل إلى مكان غريب، فيستكشفه ويعود منه بتجربة اعتبارية، إلا أنه وكما يقول «باولو كويلهو» فإن الكنز فى الرحلة، هذه التى تموج بالتساؤلات الوجودية القدرية وتفكيك الذات والعالم. تبدأ رواية «بدر» قبل يوم واحد من سفر بطلها المثقف العراقى العاطل، الذى سرح من الجيش عقب انتهاء الحرب مع ايران إلى مدينة «تل مطران» شمال غرب الموصل، بتوصية من التركية الجميلة «صافيناز أوغلو» ابنة الشاعر التركى «عبدالرحمن أوغلو» صديق «ناظم حكمت»، والتى التقاها فى المكتبة البريطانية بعد وداعه لصديقته الكلدانية «ليليان سركيس»، فأرسلته برسالة مكتوبة بالسريانية للأب «عيسى اليسوعى»، راعى بيعة الكلدان الكاثوليك فى المدينة، ليقوم بتعليم الأطفال السريان اللغة العربية. وتبدأ المفاجآت منذ أول خطوة للمعلم أو «الرابى» بالسريانية فى تل مطران، حيث يثير ظهوره هلعا شديدا بين كل من يراه ويؤدى إلى هروب الجميع منه، يعلم فيما بعد أن مصدر ذلك هو نبوءة بأن موت الأب عيسى اليسوعى والذى كان يحتضر فى ذلك الحين يصادفه مجىء أحد الغرباء إلى المدينة، ومن ثم ظهور النبى المخلص، بالإضافة إلى كون أهل تل مطران يخشون الغرباء كما يخشون الموت. بوصول الرابى للمدينة يلتقى بالعديد من الشخصيات التى يصعب اعتبار أى منها ثانويا لعناية الكاتب بوصف ورسم كل منهم، لكن أهم هذه الشخصيات كان القس أو القاشا «خوشابا» وهو شاعر قديم ومثقف وفيلسوف مولع بالشاعر النيتشوى «دانونزيو» والفلاسفة «شوبنهاور» و«ماسينون» و«نيتشة»، كما يتحدث عن سركون بولص وسعدى يوسف وأدونيس والسياب وغيرهم. كل هذه المصاهير الثقافية الأقرب إلى الميتافيزيقية جعلت من القاشا شخصا مختلفا وغريب الأطوار والأفكار على السواء، خصوصا فى فكرته عن العامة أو من يسميهم ب(الحثالة) ويدعو إلى أن يعاملهم المثقفون أو النخبة وفقا لمنطق «النفور الأرستقراطى»، والذى يقضى بضرورة بتر واستئصال هؤلاء الحثالة من خلال تقسيم العالم إلى أخيار وأشرار. وحمل الأخيار على التخلص من الأشرار، وبذلك يتم التخلص من نصف البشرية، والاستمتاع بنشوة الشر التى لا يعرفها سوى هولاكو، فيما يسمى بالرغبة المنغولية بالتخريب والتدمير من أجل المثل الخالدة». هذا بالإضافة إلى فكرته عن السريالية التى يعتبرها قدر البشرية ومصيرها الأخير، ولا يجد فيها القاشا أى تعارض مع الدين، لأن الدين فى رأيه اعتمد فى نشأته على المفاهيم الشعرية كالرؤيا والكشف، كما ارتبط بتحقيق المفاهيم الميتافيزيقية والفانتازية من خلال معجزات الأنبياء. وعلى هذا الأساس الشعرى فى بناء الدين، فسيكون خياره الأخير خيارا سرياليا، وتصبح فكرة ظهور المخلص تحقيقا سرياليا للفكرة الشعرية منه، والفكرة الشعرية ستتطور بشكل حتمى إلى الفكرة السريالية وبذلك يذهب الدين كله وتبقى منه فقط الفكرة السريالية. هذه الأفكار الميتافيزيقية المتدفقة للقاشا تقابلها أفكار أكثر براجماتية وواقعية هى أفكار الفتاة الجميلة «شميران» حفيدة حاكم تل مطران، والتى تعرف الكثير عن المدينة وأسرارها بما فى ذلك نيات القس الذى تريد استغلال مشروعه السريالى لصالحها. هذه ال«شميران» تكرر مأساة أمها التى أحبت قبل عشرين عاما الرابى الغريب الذى يشبه تماما الرابى الحالى، فخلف لها حملا تسبب فى مقتلها على يد أبيها بعد ميلاد «شميران» وهروب الرابى. ترتبط «شميران» كأمها بالرابى البغدادى، وتبوح له بما تعرفه عن خوشابا، ونيته فى قتل الأب «عيسى اليسوعى» والتعجيل بظهور النبى المزعوم، الذى سينصب القاشا نفسه وسيطا بينه وبين الناس، وبذلك يمتلك على الناس سلطة مطلقة، كما تخبره بمشروعها الذى يتلخص فى الحصول على كنز اليزيديين الذى دفنه الأمراء الأكراد الهورامانيون فى تل مطران عند والد جدها. وبالفعل يتحقق كل ما قالته «شميران» فتقتل جدها وتحصل على الكنز، ويقتل القاشا الأب «عيسى» اليسوعى ثم يخرج إلى العامة ليعلمهم بأمر النبى الجديد، مصدقا خدعة «شميران التى وعدته بتأييده هى والرابى، قبل أن تقنع الرابى الغريب بقتل القاشا، ثم تخرج على العامة من الجماهير المحتشدة مطالبة إياهم بقتل الرابى الغريب «النخرايا»، مدعية أنه قتل نبيهم المخلص. وهذا هو الجزء الأخير من نبوءة العرافة الكردية الذى أخفته«شميران» عن الشاب الغريب حتى تستغله فى الوصول ثم الانفراد بالمال والسلطة بعد التخلص من الجميع بمن فيهم جدها وحبيبها المزعوم الرابى. حتى هذه المنطقة من الحكى، بما فيها من غرائبية ولا معقول كان للرواية منطق ولو متخيل، ولكن هدم الكاتب لهذا المنطق الخيالى بعد (330) صفحة واصفا إياه بأنه مجرد حلم كان هو الشىء غير المنطقى، حيث يفيق الراوى ليجد نفسه لايزال فى بيته ويتصل بصديقته «ليليان» فتأتيه وتؤكد له أن مامضى على لقائهما ليس أكثر من يوم وأنه لم يغادر بغداد لأى مكان وأنه لابد أنه كان يحلم، وكأن الكاتب مطالب بتفسير واقعى لأحداث روايته ووقائعها!. لكن هذا لن يسحب كثيرا من كم الدهشة والمتعة والاستغراق الذهنى الذى تثيره رواية «الطريق إلى تل مطران»، التى قدمت وفقا للأديب السورى «نبيل سليمان»: تخييلا ثريا للفسيفساء العراقية الإثنية والدينية والحضارية، وعززت الإنجاز الذى حققه على بدر فى رواية «بابا سارتر» التى نشرت فى مصر ضمن سلسلة «آفاق عربية» التى يشرف عليها الكاتب الكبير «إبراهيم أصلان» فى الهيئة العامة لقصور الثقافة.