شموس نيوز – خاص “إنّ كلمة الصّليب عند الهالكين جهالة، وأمّا عندنا نحن المخلّصين فهي قوّة الله” (1كورنثس 18:1) حين يتحدّث القدّيس بولس عن الصّليب لا يريد بذلك استحضار معاني العقاب والقتل والتّعذيب الّتي عرفها التّاريخ البشريّ. لقد استخدمه الأشوريّون في آخر عهدهم كوسيلة للتّعذيب، ثمّ أخذ اليونانيّون هذه العادة من الأشوريّين وشرعوا يستخدمونه لتنفيذ أحكامهم في المجرمين. وكذلك الرّومان قد قلّدوا أسلافهم في هذه العادة. أمّا العبرانيّون، فكانوا ولا يزالون يعتبرونه آلة للعار، استناداً إلى ما جاء في سفر تثنية الاشتراع: “وإذا وجدتم على أحد جريمة تستوجب القتل، فقتل وعلق على خشبة” ( 22:21). لكنّ بولس أراد بكلمة الصّليب المسيح المعلّق على الصّليب، فالصّليب من دون شخص المصلوب، أي يسوع المسيح، لا يعني شيئاً. وأن يقول القدّيس بولس إنّ الصّليب قوّة الله فهو يريد بذلك شخص المصلوب الّذي جعل من الصّليب آداة خلاص. وإذا كانت كلمة الصّليب عند الهالكين جهالة، فلأنّه من العسير فهم الصّليب بمعزل عن الفكر الإلهيّ ما يشير إليه القدّيس بولس في الرّسالة الأولى إلى كورنثس في الجزء الثّاني من الآية (18): “وأمّا عندنا نحن المخلّصين فهي قوّة الله”. فالهالكون هم الّذين لم يدخلوا عمق الخلاص، ولم يتحرّروا من ذهنيّة العالم الّذي خلقوه لأنفسهم. وأمّا الّذين تحرّروا من سلطة هذا العالم بالمسيح ففهموا كلمة الصّليب بالفكر الّذي في المسيح. إنّ الصّليب بمفهومه القديم كوسيلة للتّعذيب والعقاب والازدراء والتّحقير يتناقض مع عبارة (قوّة الله). إلّا أنّ الصّليب الّذي استحال مع المسيح المصلوب أداة خلاص يُفهم بحسب الحكمة الإلهيّة لا الإنسانيّة. فالحكمة الإنسانيّة لم تستوعب الصّليب والمصلوب، والعقل البشريّ قد يرى في الصّليب منتهى النّهايات. وأمّا العقل المستنير بالنّور الإلهيّ والقلب المنفتح على خلاص الرّبّ فيتأمّل الصّليب ويصمت ويفهم في قلبه قيمة الحبّ الإلهيّ ومفهوم القوّة الإلهيّة. القوّة البشرّية أمر، وأمّا القوّة الإلهيّة فأمر آخر، وشتّان بين الاثنتين. فالأولى تعتمد على العنف والقسوة والخوف، وأمّا الثّانية فحبّ مطلق. “لأن جهالة الله أحكم من النّاس! وضعف الله أقوى من النّاس!” (25:1) فما يبدو من الصّليب جهالة للّذي لم يدرك بعد معنى الحبّ الإلهيّ، وما يبدو ضعفاً إلهيّاً هو قوّة الحبّ الّذي لا يعرفه النّاس. إنّ معادلة القوّة مختلفة ومتباعدة بين الفكر الإلهيّ والفكر الإنسانيّ بقدر ما تبتعد السّماء عن الأرض. ولا تمكن المقارنة بين المنطق الإلهيّ والمنطق الإنسانيّ. لذلك يقول القدّيس بولس في رسالته إلى غلاطية (14:6): “وأمّا من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلّا بصليب ربّنا يسوع المسيح، الّذي به قد صُلب العالم لأجلي وأنا للعالم” لأنّ صليب ربّنا يسوع المسيح حكمة إلهيّة وقوّة إلهيّة. وهذا الافتخار لا يندرج ضمن إطار التكبّر غير المفهوم، وإنّما يعود بنا بولس إلى سفر إرميا (24،23:9): “هكذا قال الرّب: لا يفتخرنّ الحكيم بحكمته، ولا يفتخرنّ الجبّار بجبروته، ولا يفتخرنّ الغنيّ بغناه. بل بهذا ليفتخرنّ المفتخِر: بأنّه يفهم ويعرفني أنّي أنا الرّب الصّانع رحمة وقضاء وعدلاً في الأرض، لأنّي بهذه أسرّ، يقول الرّبّ.” إذاً فكذلك الافتخار يكون افتخاراً إلهيّاً بمعنى الإدراك والوعي بأنّ كلّ ما يملكه الإنسان من حكمة وفهم وعلم لا يساوي شيئاً أمام الحكمة الإلهيّة. كما تترادف كلمة الافتخار بالمفهوم الإلهيّ وكلمة الاتّضاع. فكلّما اقترب الإنسان من النّور والحبّ الإلهيّ تعلّق بالرّبّ وافتخر بحبّه فقط. الحبّ الّذي خلّصه ونقله من الظّلمة إلى النّور ومن الموت إلى الحياة. أهل الشّريعة يطلبون آيات تؤكّد حضور الله وخلاصه، وأهل الحكمة والمعرفة يطلبون شواهد منطقيّة ومعادلات تؤكّد الحضور الإلهيّ، وأمّا نحن المنغمسين بالحبّ الملتحمين بشخصه نبشّر بالمسيح الّذي أسلم ذاته للموت حبّاً بالإنسان. ما يشّكّل عائقاً أمام الشّريعة الّتي لا تخلّص الإنسان، وأمام العقل الّذي من العسير أن يفهم الحبّ بعيداً عن النّور.