رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس (1) اختبار الإيمان المسيحي ينطلق من اختبار الصّليب لاستحقاق القيامة. وإذ يقول بولس الرّسول: "إنّ كلمة الصّليب عند الهالكين جهالة وأمّا عندنا نحن المخلّصين فهي قوّة الله" (1كو 18:1)، فلا بدّ أنّه اختبر الصّليب بل سار حاملاً إيّاه حتّى استحقّ الشّهادة من أجل الحقيقة. ولقد ذكرنا سابقاً أنّ الاستشهاد المسيحي لا يعني قطعاً الموت من أجل الله أو دفاعاً عنه، وإنّما الاستشهاد المسيحي هو ذروة الاتّحاد بالمسيح ومواجهة الموت بالقيامة من أجل الحقيقة، الله المحبّة. النّاس يجهلون قيمة الصّليب وجوهره لأنّهم يخافون الحبّ، والإنسان يخاف ما يجهل. مسيرة الحبّ مؤلمة ومتطلّبة، أحكامها صارمة وقاسية تفترض التزاماً بالمحبّة حتّى المنتهى. والمعنى المحتجب في عبارة (الهالكين) يشير إلى القابعين في ظلمة العبوديّة، عبوديّة الذّات أوّلاً، وعبوديّة العالم ثانياً. مبدأ الألم عند هؤلاء مرفوض لأنّه ينتزع منهم أناهم المتكبّرة، لذا يخشون ارتقاء سلّم الحبّ. والمعنى الآخر المتجلّي في كلمة (المخلّصين) يبيّن معنى الحريّة الكاملة بيسوع المسيح، أي الحرّيّة الّتي لا نحصل عليها إلّا بالمحبّة. يجهل البعض معنى الصّليب فيخافونه ثمّ يرفضونه. وقد يربطونه بالألم الجسدي وحسب فيقلّلون من قيمته الجوهريّة. فالصّليب أبعد من مادّة علّق عليها شخص اضّطهده اليهود خوفاً على مصالحهم أو نفوذهم الكهنوتي على البشر. وهو أعمق من خشبة استخدمت كوسيلة عقاب لزمن طويل فاستحالت عاراً على المصلوب عليها. الصّليب هو عرش الحبّ الّذي حمله السّيّد بإرادة حرّة وقرار حرّ وقبل طوعاً احتمال آلام هذا الحبّ من أجل أن يعبر الإنسان من الظّلمة إلى النّور، من العبوديّة إلى الحرّيّة. الصّليب عند الهالكين ضعف ومهانة وإذلال، وأمّا عند مريدي الخلاص قوّة الله وحكمة الله. الهالكون ينظرون إلى الصّليب بعيون الكبرياء وأمّا المحبّون فيعاينون فيه الفكر الإلهي المتعارض مع فكرهم والمغاير لحبّ السّلطة والتّملّك. قبل المسيح الصّلب لأنّه أحبّ الإنسان حتّى المنتهى. "أما يسوع قبل عيد الفصح، وهو عالم أنّ ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب، إذ كان قد أحبّ خاصّته الّذين في العالم، أحبّهم إلى المنتهى." (يو 1:13). يربط القدّيس يوحنا مجيء ساعة الانتقال من العالم بحبّ المسيح حتّى المنتهى. ويبدو هذا واضحاً في الآية فنفهم ما معناه أنّه عندما اقترب المسيح من الموت واجهه لأنّه يحبّ خاصّته حتّى المنتهى. وبالتّالي فهو مستعدّ للموت من أجل هذا الحبّ. وهنا يكمن كلّ المنطق الإلهيّ. ونفهم المعترضين لأنّه ليس من السّهل إدراك هذا المنطق. إلّا أنّ منطق الحبّ مختلف عن منطق البشر ومغاير لقسوة قلوبهم. وإذ نقول إنّ المنطق الإلهي مختلف عن المنطق البشري، فذلك لأنّ الله حبّ صرف وأمّا البشر فلا يعرفون الحبّ ولا يسلكون فيه إلّا بحسب رغباتهم البشريّة. حكمة العالم تقود إلى حكمة عالميّة مثلها، وأمّا حكمة الله فيدركها الإنسان بالحبّ. فالشّيء بالشّيء يدرك، والحبّ بالحبّ يدرك. والعالم إذ أراد أن يبحث عن الله بالحرف، والحكمة، والمعرفة الدّنيويّة، والنّصوص التّشريعيّة، فنحن نبشّر بالحبّ والسّلام اللّذين بهما نجعل العالم يعاين الله. "لأنّ اليهود يسألون آية واليونانيين يطلبون حكمة، ولكنّنا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً، عثرة لليهود وشكّاً لليونانيين". (ا كو 23،22:1). من يطلب آية ومعجزة ليثبت الحضور الإلهي فصليب الحبّ عثرة له، لأنّه لن يرى فيه أيّة معجزة. ومن يبحث في الصّليب عن حكمة بشريّة فسيتشكّك ويتمرّد عقله. وأمّا في الحبّ كلّ القوّة والحكمة والمعرفة، لأنّ الحبّ قوّة خالقة تمسك بيد الإنسان وتقوده نحو الحرّيّة. يعتلي صليب الحبّ وينظر إلى العالم من فوق لا يشتهي شيئاً ولا يخاف شيئاً.