حيّة إلى غازي عاد، وكي لا ننسى المخطوفين، هذا فصل من روايتي "كلّ الحقّ ع فرنسا" (ملاحظة لغويّة: أسماء العلم في رواياتي لا تخضع لقواعد اللغة بل تكتب كما تلفظ) (شادي) "أنا لست رقمًا في سجلاّت المخطوفين، فكيف يكون لي رقم وأنا من دون اسم ووجود؟ أنا لا أحد ولا شيء. مخطوف، أسير، ميت، لا أعرف. ولم يعد يعنيني أن أعرف. أنا الآن رجل مريض، رجل؟ ما هذه المزحة السمجة؟ كنت شابًا حين رموني هنا. هل صرت رجلاً؟ صرت مريضًا؟ نعم. ولكن رجل؟ وماذا بقي من رجولتي بعدما جرّبوا فيّ كلّ أنواع التعذيب. أنا لا أحد، فما دام والداي ليسا هنا ليسألا عنّي فأنا في السجن لا أحد. أشعر أنّ أخوتي وأعمامي توقّفوا عن البحث عنّي منذ زمن، وما عادوا ينتظرون أن يعرفوا شيئًا عن أخباري. أشعر بذلك ولا أعرف كيف أصفه. ربّما المخطوف يصل إلى مرحلة الانخطاف فيرى ما لا يراه الناس ويسمع ما لا يسمعه الآخرون. لولا ذلك لكان ميتًا منذ الصفعة الأولى. منذ الإهانة الأولى. أو ربّما هو ميت إلى حدّ ما، ومجنون إلى حدّ ما، ومخطوف إلى حدّ ما، ومنخطف إلى حدّ كبير. في الأسر مثقّفون تعلّمت منهم الكثير من الكلمات قبل أن ينهزموا بفعل العمر والقرف. ومن سوء حظّي أنّني كنت شابًا ولا أفهم في القرف الوجوديّ. فلم أمت. كثر من الذين كانوا معي اختفوا. كنّا نقول عن الواحد منهم (خرج ولم يعد) ونضحك من صميم قلوبنا على هذه النكتة لأنّنا نعرف أنّهم هكذا قالوا عنّا حين اختفينا (خرج ولم يعد. الرجاء ممّن يعرف عنه شيئًا الاتّصال بأقرب مخفر). ونضحك حتّى تسيل الدموع، ثمّ نبكي وتنزل الدموع. نفتح أفواهنا التي تكسّرت فيها الأسنان واهترأت، ونطلق ضحكات هستيريّة يطمئننا سماعها إلى أنّنا ما زلنا نتذكّر كيف نضحك ولو على أنفسنا، ثمّ نبكي ويسيل مخاطنا ممزوجًا بالدمع فنمسحه بأكمامنا التي تفوح منها رائحة النتن التي لا تفارقنا فنحاول أن نتذكّر رائحة النظافة فنعجز. الأوساخ في كلّ مكان وسجّانونا لا ينظّفون إلاّ ذاكرتنا. على كلّ حال النسيان خلاص لأسير ليس له أحد يعود إليه. علّمني أحد السجناء قبل أن يخرج ولا يعود أن أحارب الأسر بالذكريات. قلت له: (ذلك يوجع، النسيان أرحم). قال لي: (لا تدعهم يقتلونك ويقتلون الذين تحبّهم). فأخذت كلّ يوم أستعيد أسماءهم: كمال عقل وجمال، وديع إبن إمّو المطيع، شادية معبودة الجماهير، هكذا كانت أمّي توزّع عليهم الصفات، وهكذا أريد أن أتذكّرهم. أمّي مسيحيّة وأبي فلسطينيّ. وأنا؟ من أنا؟ أنا شادي الذي قالت له أمّه مرّة: (لا أحبّ أغنية فيروز عن شادي لأنّي أخاف أن تضيع منّي وتحرق قلبي). ولكنّها هي التي حرقت قلبي وقرّرت أن تموت وتلحق بوالدي الذي أحبّته أكثر منّا كلّنا. بعد ذلك لم نعد عائلة. صرنا أربعة أشخاص معبّأين غضبًا نتشاجر ما أن نلتقي، حتّى سافر كمال ووديع إلى السعوديّة بتدبير من عمّي الذي له علاقات واسعة مع مسؤولين في الدولة. ثمّ لحقت بهم شادية على أن ألحق بها حين يستطيع عمّي أن يشتري لي تأشيرة دخول على جواز سفري المزوّر. ولكنّ كفيله السعوديّ مات قبل أن يحصل ذلك، وعلقت أنا في لبنان، وتزوّجت شادية إلى مصر التي كانت أمّي تحلم بزيارتها، وكانت تحبّ أفلام شادية وعلى اسمها سمّت شقيقتي التوأم التي لا يمكن أن تصدّق أنّني متّ، وإلاّ لكنت ظهرت عليها في المنام كما كانت جدّتي أمّ أحمد تعلّمنا. أنا لم أمت يا شادية. لا تنسيني وإلاّ متّ فعلاً. لا ترمي أغراضي وثيابي، لا تخفي صوري كي لا تريها وتنزل دموعك. أنا مخطوف يا شادية مثل مئات المخطوفين هنا، المنسيّين إلاّ من قبل أمّ وأب. أنا لا أب لي ولا أمّ يا شادية. لا تنسيني وكوني أبي وأمّي وأخبري أولادك عنّي. هل صار عندك أولاد يا شادية؟ هل عندك صبيّ تقولين له: ( لا تكن مشاغبًا كخالك يا صبيّ!). بالي مشغول على وديع يا شادية، شاهدته في المنام ولم يكن هو. أنا في السجن ولكنّي لم أعد خائفًا فأيّام التعذيب ولّت منذ أعوام، تعب الجلادون من التعذيب، ولكنّ الخوف عاودني حين شاهدت وديع في الحلم وكان يبكي ويطلب منّي ألاّ أنساكم: كمال عقل وجمال، وديع إبن أمّه المطيع، شادية معبودة الجماهير. كمال عقل وجمال، وديع إبن أمّه المطيع، شادية معبودة الجماهير كمال عقل وجمال، وديع إبن أمّه المطيع، شادية معبودة الجماهير".