رسالة بولس الرّسول إلى أهل رومية (4) أعاد بولس قراءة الشّريعة التّوراتيّة على ضوء يسوع المسيح لأنّه أيقن أنّ اكتمالها يكون بالرّب يسوع المسيح. "ما جئت لأنقض بل لأكمّل." (متى 17:5). نتلمّس في الفصل الرّابع من الرّسالة إلى أهل رومية، عمق المفهوم الإيماني الّذي تلقّاه بولس من الحقيقة مباشرة. بولس التقى بالمسيح على طريق دمشق، وهذا اللّقاء هو أولى خطوات الإيمان الحقيقي. وأمّا الإيمان الّذي كان متغلغلاً في بولس فلم يكن يشبه أبداً ما أثبتته الحقيقة. على طريق دمشق أدرك بولس أهميّة الهبة والنّعمة وفيض المحبّة الإلهيّة. في الماضي كان يظنّ أنّ التزامه بالشّريعة سبباً أساسيّاً لإرضاء الله، وأمّا اليوم فيعلّمنا بولس أنّ الإيمان هبة إلهيّة، حبّ ينبع من الله وينسكب في الإنسان، والتّفاعل مع هذا الحبّ هو جواب النَّعَم على الحبّ الإلهي. وفي اللّحظة الّتي سأل بولس الرّبّ: "يا سيّد ماذا تريد أن أفعل؟" أجاب على النّعمة الإلهيّة وتفاعل معها. من هنا نفهم قول الكتاب: "آمن إبراهيم بكلام الله، فبرّره لإيمانه". ويكمل بولس إذ يقول: "من قام بعمل، فأجرته حقّ لا هبة. أمّا من لا يقوم بعمل، بل يؤمن بالله الّذي يبرّر الخاطئ، فالله يبرّره لإيمانه." من يسعى ينل حقّه وأجره، وأمّا الحبّ الإلهيّ فمنحنا التّبرير بالنّعمة أي بدون استحقاق. وبالتّالي ليس العمل بالشّريعة هو الّذي يؤدّي إلى التّبرير وإنّما الإيمان، أي لقاء الحبّ التّفاعلي بالله. هذا لا يعني أن يقف الإنسان هنا ولا يدخل الإطار التّفاعليّ، لأنّ الكتاب أيضاً يقول: "لأنّه كما أن الجسد بدون روح ميت، هكذا الإيمان أيضاً بدون أعمال ميت." (يعقوب 26:2). إلّا أنّ الإيمان يأتي أوّلاً ثمّ العمل يثبته ويظهره. "نحن نحبّه لأنّه هو أحبّنا أولاً." (1يو 19:4). والحبّ الإيمانيّ يفترض عملاً وجهداً وسعياً. " نحن نقول: إنّ الله برّر إبراهيم لإيمانه. ولكن متى تمّ له ذلك؟ أقبل الختان أم بعده؟ قبل الختان لا بعده. ثمّ نال الختان علامة وبرهاناً على أنّ الله برّره لإيمانه قبل ختانه، فصار إبراهيم أباً لجميع الّذين يبرّرهم الله لإيمانهم من غير المختونين، وأباّ للمختونين الّذين لا يكتفون بالختان، بل يقتدون بأبينا إبراهيم في إيمانه قبل أن ينال الختان." (رو 12،9:4). النّعمة الإلهيّة شاملة مجانيّة ولا أحد محروم منها، وأمّا من يرفضها ولا يتفاعل معها فهو الّذي اختار وقرّر أن يبتعد عن الحبّ الإلهيّ. من هنا عظمة الفكر المسيحي الّذي لا يقصي أحداً عن التّبرير والخلاص، ولا يحتكر الله لنفسه. الحبّ للجميع والله للكلّ، والمسيح تجسّد من أجل المختونين والأمم. يبقى على الإنسان أن يتعرّف على هذا الحبّ الإلهي، وعلى هذه النّعمة ويقبلها ويتفاعل معها ليبلغ قلب الله.