ما يبقى من كل الحضارات هو العمارة! ما يبقى من كل الشعوب هو الفنون! حين تزور أي معلم أثري, أو أي متحف يضم ما اكتشفته بعثات التنقيب في بلادنا, ستقف مندهشاً أمام ذلك العقل الذي أبدع وتلك الأيدي التي بنت أو نحتت.. ستخرج بحكمة تقول: الجميع ذهبوا ولم يبق منهم سوى فنونهم! حضارات تعاقبت.. أقوام وملوك وأباطرة.. فاتحون وغزاة.. فلاسفة ومعماريون وحرفيون مهرة.. كلهم رحلوا وبقيت الفنون الجميلة. الإنسان لا يمتلك ناصية الخلود إلا بأثر يبقى, فتذكره الأقوام والأجيال اللاحقة. ومن بديع ما تراه أن كل تلك الحضارات المتعاقبة شكّلت فسيفساء المنطقة الرائعة وصرنا نحن- كما ينبغي أن نكون- نتاج تفاعل وتجاور ذلك الموزاييك الحضاري الرائع. لم نكن عبر العصور قوماً واحداً.. ولا شعباً واحداً.. ولا لغة واحدة.. ولا ديانة واحدة…… بل كنا نتجاور ونتنافس في تخليد فنوننا.. ستقف مذهولاً أمام ناووس ملكي نُحِتَ من صخرة واحدة ضخمة, ستقف أمام الأشكال التي نحتت بالصخر بدقة متناهية فكاد الحجر ينطق.. ذهب المُلك والصولجان وبقي الناووس- التابوت يشهد على عظمة الفنان ويده التي اشتغلت بحرفية عالية. ستقف مذهولاً أيضاً بل ومستغرِباً كيف استطاعت تلك الشعوب أن تبني تلك القلاع والمسارح من صخر ضخم وستتساءل كيف ارتقت تلك الصخور التي تزن واحدتها بالأطنان إلى ارتفاع شاهق؟ عظمة الإنسان تتجلى هنا.. هنا في فن العمارة والنحت على وجه الخصوص.. إنه العقل وهو يبدع الفن.. إنها اليد وهي تحوّل الحجر إلى تحفة. في التاريخ الذي تنطق به الآثار لم يبق من الملوك سوى أسمائهم ولم يبق من الشعوب سوى فنونهم.. حروب وصراعات.. انتصارات وهزائم.. أقوام وديانات…. الجميع مضى إلى المبنى الخلفي للزمن.. وتصدرت العمارة والفنون واجهة الزمن الأمامية. لم يبنِ شعب واحدٌ تاريخ المنطقة.. لم تدم ديانة واحدة فقط في المنطقة.. لم تتفرد قومية واحدة في المنطقة.. في كل بقعة من هذه الأرض ثمة ما يؤكد أن الجميع ساهموا في بناء هذه الحضارة التي ننتمي إليها وكان لكل منهم تأثيره الواضح.. هكذا صرنا ورثة حضارات وديانات وقوميات تفاعلت وأنتجت التاريخ الذي مازلنا ندرسه ونعلمه لأجيالنا المتعاقبة.