عظيم هو سرّ التّجسّد الإلهي الّذي يؤكّد على أنّ الله الحيّ والقدير قريب من الإنسان وأقرب من ذاته إليه. إنّه السّرّ الّذي يعجز الإنسان المكتفي بذاته وغير المنفتح على المحبّة الإلهيّة عن فهمه وقبوله، لما يحمل في قلبه وعقله من قسوة وتحجّر وانغلاق. عظيم هو ربّنا الّذي ارتضى أن يلج عالمنا البائس والمتخبّط بكبريائه لينتشله من بؤسه ويحافظ له على كرامته. وعظيم هو حبّه الفائق كلّ إدراك وكلّ تصوّر والّذي به فقط يتغيّر وجه الأرض وتتبدّل معالمها لتعود إلى بهائها الأوّل، يوم نظر الرّبّ إلى ما صنعت يداه وهتف: " هذا حسن جدّاً". زمن الميلاد، هو زمن انتظار حضور الله بشخصه بفرح وثقة، وزمن انتظار تجلّيّات الرّبّ المستمرّة في حياتنا. كما أنّه زمن الارتواء من نبع الحبّ الأصيل فوحده الحبّ، القوّة الإلهيّة، ينقّي قلوبنا ويطهّر نفوسنا ويجدّد عقولنا حتّى تتهيّأ لاستقبال الطّفل الإلهيّ، فتستعيد حرّيّتها وتنطلق في العالم لتبشّر المساكين بأنّ الرّبّ الّذي لا ينعس ولا ينام، آتٍ ليرفعها إلى فوق. في هذا الزّمن المجيد، نحن مدعوّون للصّوم والانقطاع عمّا يحول بيننا وبين محبّة الرّبّ، فكلّما فرغنا من قيودنا امتلأنا من حضور الرّبّ فينا، وباتت حياتنا فيه وحياته فينا قصّة حبّ تشرق على العالم الغارق في الظّلمة، أنواراً إلهيّة تبيّن السّبل القويمة، وتقوّم السّلوكيّات الإنسانيّة شهادة للمسيح الحيّ. والصّوم ليس الانقطاع عن الأطعمة وحسب، وإنّما هو انقطاع عن العالم وانفتاح على المحبّة الإلهيّة. ولعلّ أهمّ ما يجب أن ينقطع عنه الإنسان الكلام والثّرثرة مكتفياً بالضّروريّ منه واللّازم. نصمت لنسمع صوت الرّبّ، فكثرة الكلام يشوّش على أرواحنا ويمنعنا من الغوص في السّرّ الإلهي فلا نتمكّن من الإصغاء مليّاً إلى صوت الرّوح فينا. الصّمت صلاة تمكّننا من التّفاعل مع الرّبّ، فنفهم لغته وهو المصغي إلينا دوماً بصمت مهيب، والفاعل في حياتنا بصمت جليل. لقد دخل الرّبّ عالمنا بصمت، ونما بالقامة والنّعمة والحكمة بصمت، وتقرّب من النّاس وقادهم إلى الحقّ، وشفا عللهم الجسديّة والرّوحيّة بصمت، وسار درب الجلجلة وواجه كلّ الشّدائد بصمت، ثمّ ارتفع على صليب المجد بصمت. ونحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى الصّمت والتّحرّر من كلّ الضّجيج المحيط بنا، متخلّين عن كلّ هذه المباهج الزّائفة الّتي تسلب منّا حياتنا الحقيقيّة. أيّها المسيح الحبيب، نور الحقّ وشمس البرّ، يا من دوّى حبّك الصّامت في حياتنا فأعتقنا من عبوديّتنا وحرّرنا من قيودنا، أهّلنا أن نتحضّر لمجيئك العظيم بصمت وسكون، فندخل في سرّك الّذي يفوق كلّ عقل وإدراك ونغرف من حبّك القاهر للموت، أنت وحدك الّذي يليق بك كلّ إكرام ووقار، مع أبيك وروحك الحيّ القدّوس، الآن وكلّ أوان وإلى أبد الآبدين. آمين.