شاعرة تفتح نوافذ الصمت الدكتور نجيب العوفي تعود إلينا الشاعرة بهيجة البقالي القاسمي من جديد، في عملها الشعري الوليد «على نوافذ صمتك »، لتفتح نوافذ الشعر ونوافذ الصمت في آن. ولا بِدعَ، فالشعرُ والصمت عند الشاعرة صنوان لا يفترقان، ولحنان ملتحمان في اللسان والوجدان. وذلك منذ إطلالتها الشعرية الأولى علينا، التي اقتحمت فيها بجرأة عالم الصمت «صراخ الصمت ..» وهاهي ذي تِيمة الصمت تعود من جديد لتتوطن شغاف هذه المجموعة الجديدة. والعنوان المختار لها، «على نوافذ صمتك »، يشي للوهلة الأولى، بالشحنة الدلالية الثاوية في نصوصها، وأطراف معادلتها. إن العنوان، من منظور نحوي، هو شبه جملة، تكتمل وتشتق بفعل محذوف تقديره على الأزحم «أطل على نوافذ صمتك .» أو «أهيم على نوافذ صمتك »، بالأحرى. فالحديث الشعري في المجموعة إذن، ينحو منحى وجدانيا وعاطفيا رومانسيا. طرفاه، هي وهو. أو أنا «الشاعرة » وأنت «المخاطب .» وهو العالم الأثير- والأثيري الذي تخلق فيه نصوص الشاعرة، منذ باقتها الشعرية الأولى «صراخ الصمت »، إلى هذه الباقة الجديدة المزيدة «على نوافذ صمتك .» وما أحوجنا في هذا الزمن الجهم الأغبر، إلى نسمات ولمسات الرومانسية، التي غادرت شواطئها الشعرية، مع هبوب رياح العولمة الكاسحة.. تعود الشاعرة بهيجة إذن، لتواصل شدوها الشعري ومناجاتها الحارة للصمت. وكأن صراخها الأول في وجهه، لم يشف منها الغليل، أو كأن هذا الصمت قدر مقدور لا فكاك منه إلا بالوقوع فيه. نقرأ في نص شلالات العيون من المجموعة الجديدة: - قال : ما هي أمنياتك للعام الجديد؟ - قلت : أن أحقق أمنياتي. - قال : وما هي؟ - قلت : أن أبقى أنثى الصمت ...طوال حياتي . ومن ثم تفتح وتشرع نوافذ الصمت على سعتها، فيرف هواء الشعر عليلا- بليلا، ويتنزل بردا وسلاما على الوجدان، فيما يشبه التطهير الأرسطي .catharsis في قراءة لي سابقة لعملها الأول صراخ الصمت ، قلت في خاتمة المطاف: «لعل بعد فورة الصراخ الأول للشاعرة، سيهدأ وجيب هذا الصراخ، ليبدأ بوح شعري آخر، وشجون شعرية أخرى. والنبع كلما تدفق، كان ماؤه زلالا. » والملاحظ في هذه المجموعة، أن هاجس الصمت مقيم لا يريم، لكن حدة صراخه بدأت تخف وتخفت، وتقترب من الهمس والبوح والنجوى، بعد أن نضج هذا الصمت كفاية، على نار الوجدان. - همس عازف - تناغمت حروفه - رسمه النبض على الشريان - شدو ناعم - بنسيم هدوء ليله - أسامره باشتياق وحنين ص 2 هذا الهمس الرقيق، هو أول ما تطالعنا به المجموعة في نصها الأول «كل العناوين لك .» و بعد هذه الفاتحة مباشرة، ينهمر شلال الصمت غدقا، وتنفتح نوافذه على مصاريعها . فهو حاضر بقوة في المجموعة وبشحنة عاطفية حارة، تسري هذه المرة همسا لا صراخا/ «أشتاق إلى صمتك فلا أجد غير صمتي يكلم صمتك ويخاطب الذكرى أعشق صمتك حين تشتهيه كل النساء و أسمعه يهمس لي : أنا لك وحدك يا كل النساء » ص 3 وفي صفحة واحدة )ص 5( من نص «شلالات العيون » تكررت لفظة الصمت 16 مرة. وقبلها في صفحة 3، تكررت اللفظة 15 مرة. بما ينهض قرينة بليغة على قوة هذا الحضور. ولا غزو، فهي أنثى الصمت في محفل الصمت – الناطق، تمارس طقوسها العاطفية والصوفية الخاصة. وللحب أبواب عدة، كل يدخل إليه من باب. والمفارقة الشعرية هنا، كيف ينشأ ويتوقد كل هذا الحب، في ظلال الصمت ؟! كيف يلتقي الساخن مع البارد ؟ ! «ربما كلانا يحب بصمت لكن كيف يصمت من يحب ؟ » ص 10 تلك هي مسالة هذا الصمت. بل تلك هي جماليته وشعريته وجاذبيته على وجه التحديد. « بصحبة صمتي، كل الأوقات أحلام جميلة تتجدد » ص 4 «لصمت الصمت مذاق آخر، لن يفهمه أحد غيري » ص 6 ها هنا، بلاغة الصمت، التي تنوب مناب بلاغة الكلام. والشاعرة إلى ذلك، تأنف من البلاغة ومن العروض، في الحب كما في الشعر. « أمن الضروري البحور لأكتبك؟ أمن الضروري البلاغة لأحبك؟ ص 12 وهي إذ تأنف من البلاغة والعروض، تخلق لنفسها بلاغة خاصة وحميمية، طلقة وإنسيابية، تفيض من الذات، كما يفيض الماء من النبع، والشوق من العين. وأحيانا كما تفيض الدمعة من العين. وفي قرارة الشعر، ثمة دائما لوعة دفينة. وصمت لا يقوله إلا الصمت. تراوح الشاعرة في مجموعتها الجديدة، بين النفس الطويل والقصير. تطلق العنان أحيانا لبوحها الشعري فيسترسل نصا طويلا، كما في مطولتها «شلالات العيون » و «نبض على الشريان ». وتجنح أحيانا نحو الومضات الشعرية – الشذرية، كما في نصيها «من قعر الكلام » و «كي تراني . » وفي جميع الحالات والمقامات الشعرية - والشعورية، تعيدنا نصوص الشاعرة بهيجة إلى نبع الشعر الحالم. إلى دفء الحب ورومانسيته وشعريته . في جميع الحالات والمقامات الشعرية - والشعورية، يبقى هوى الشاعرة دائما، موزعا بين الحب والصمت والشعر. في ذلك، تجد دائما ضالتها وأناها ومبتغاها. ولا يهمها، بعدئذ، شيء. « عاشقة قالوا، فما همّني ! " ص 14 لكن، ثمة شيء آخر يهمها، كما جاء في خاتمة المجموعة / « لا يهم من أكون و لا في أي رف أكون، ما يهم، هو أن تقرأني قراءة صحيحة . ص 29 وأرجو أن أكون اقتربت من هذه القراءة .