تمكنت من حجز تذكرتي عائداً الى مدينتي ، بعد اجازةٍ جميلة قضيتها بين أحضان الطبيعة ، بعيداً عن جموح المدينة و صخب العمل .... كانت النسمات العليلة تحاول ثنيي عن قرار انهاء اجازتي ، لكن عودتي لأستئناف عملي كانت ملحة ... عانقت الأشجار عناقاً أخيراً و اعتذرت للنسمات بلطف و حزمت حقائبي .... كانت محطة القطار مزدحمةً بالمسافرين صبيحة ذلك اليوم ... أخذت مكاني الى جانب عجوزٍ سبعيني .... بضع دقائق و انطلق القطار قاصداً المدينة ، بحثت في حقيبتي عن كتابٍ كنت قد ابتعته قبل قليل من أحد الأكشاك لأطالعه أثناء الرحلة ، لكني اكتشفت أنني قد نسيته على مقاعد الأنتظار ، تأففت و نظرت حولي ، كان العجوز الذي يجلس الى جانبي كثير الحركة و التمتمة ، و كان بين الفينة و الأخرى يخرج محفظته يقربها كثيراً الى عينيه حتى ظننته سيأكلها بهاتين العينين الضيقتين ، يعد نقوده ، يتأملها طويلاً ثم يعيدها الى المحفظة ... كم يبدو بخيلاً هذا الرجل فهكذا هم البخلاء يخافون على نقودهم من أنفسهم و يشكون حتى بأمانة محافظهم ، نظرت الى المقعد المجاور باحثاً عن وجهٍ آخر ربما يحكي لي حكايةً تسليني حتى أصل ... كان الرجل الذي يجلس هناك متجهماً ، جبهته متجعدةٌ من شدة العبوس ، و عيناه جاحظتين تتأملان شيئاً ما ، و بدا كأن ذهنه مشغولٌ بشيءٍ عظيم ، و الى شماله تجلس حسناء عشرينية ، يا لحظي كم هو تعِس و يا لحظه السعيد ... فبينما أجالس عجوزاً بخيلاً يهوى خشخشةَ أوراق النقد ، يجالس ذلك العابس حسناء ملائكية الوجه ، لمحتني أتأمل ما ظهر من قدميها الملتفتين حول بعضهما ، فعدلت جلستها و أدارت وجهها نحو النافذة ... بدت محتشمة ، جذابة ، هادئةً كسمكتي الذهبية ، و جمحتُ بخيالي متأملاً ذلك الجمال المتزن ، باحثاً عن طريقةٍ تمكنني من التحدث اليها ، قاطع خلوتي مع أفكاري صوت الشاب الذي يجمع التذاكر ... - تذكرتك من فضلك ... قال الشاب بأدب ، أخرجتها و أعطيتها له ، نظرَ الى العجوز الذي يجلس بجانبي و قال مبتسماً : أهلاً بك أيها العم ، سرني أن أراك هنا " كم هو منافقٌ هذا الشاب من يسره أن يرى بخيلاً ! أهلاً بك بني .. حدثني بسرعة ما هي أخبار دراستك ، قال العجوز ... أموري جيدة جداً و الحمد لله بقي لي فصلٌ واحد و أتخرج . أنت شابٌ مجتهد ، اتمنى لك النجاح بني ، لا تنسَ أن تبلغ والدك تحياتي سأفعل عمي ، عن اذنك مضى الشاب في طريقه بعد أن أخذ التذكرة من العجوز ، بينما كنت أحرك رأسي في كل الأتجاهات متأهباً اصطياد نظرات تلك الفتاة ، بينما كانت عيونها الخجلة منشغلةً بمراقبة حقول القمح و هي تمر سريعاً أمام نافذتها ، بدت كشاعرة أو رسامة . " بني بني " ... قال العجوز .... التفت اليه " عفواً أتكلمني " من فضلك تساعدني في أمرٍ ما ! سأل العجوز . بالطبع " قلتها رغماً عني فأنا أمقت البخلاء و لم يشفع لندائه سوى سنوات عمره الكثيرة ... ، أخرج محفظته و أعطاني اياها قائلاً " نظري ضعيف ، أوقعت نظارتي و أنا أصعد القطار فكُسرت ، هلا ساعدتني بأخراج ورقة الخمسين جنيهاً ، فأنا لا أكاد أميزها من ورقة العشرة جنيهات ، فكلتاهما من ذات اللون " فتحت المحفظة و أخرجت له ورقة الخمسين جنيه ، شكرني بشدة ، أعاد محفظته الى جيبه و ظلت ورقة الخمسين جنيهاً في يده ... نادى على الشاب الذي يجمع التذاكر قائلاً : سأنزل في المحطة القادمة ، ألن تسلم علي ! مد الشاب يده لمصافحة العجوز ، فدس فيها الثاني ورقة الخمسين جنيهاً ، احمرت وجنتا الشاب و أطرق رأسه خجلاً و قال : أيها الطيب ، هذا كثير ، كلما لمحتني تفعل معي ذلك !"... قطب العجوز حاجبيه و وضع سبابته على شفتيه طالباً من الشاب عدم التكلم و قال: لا تنسَ أن تسلم على والدك " ... ابتسم الشاب و وضع الورقة النقدية في جيبه قائلاً : لن أنسى سيدي ، و لن أنسى كذلك معروفك معي ما حييت ، أشكرك جزيلاً ، أنت كريمٌ جداً " و مضى .... شعرتُ للحظات أنني أذوب في مكاني كقطعة ثلج ، أصغرُ اصغرُ حتى أختفي ، اتسلل عبر شقوق القطار ، وأتبعثر على سكته الحديدية ، خجلت من نفسي و من ظنوني و شعرتُ أنني أدين لهذا العجوز باعتذار و جاء اعلان الوصول الى المحطة الأولى عبر مكبرات الصوت ، فنهض الرجلُ من مكانه ودعني و غادر القطار ، بينما بقيت صامتاً كالأبله ، متحاشياً التقاء عينيه الواسعتين بعيوني ضيقة الأتساع ... صعد بعض الباعة الى القطار بعد أن توقف و اقتربت فتاةٌ صغيرةٌ تبيع الورد من الرجل العابس فطلب منها الابتعاد عنه ، لكن الفتاة كانت لحوحة ، فما كان منه الا أن نهرها بشدة ، فخرجت مسرعةً بعد أن دب الذعر في أوصالها ، ياله من رجلٍ غليظ القلب ، فظْ ، حتى أنه لم يغير من جلسته طوال الطريق ، لم يشرب شيئاً ، لم يتبادل حديثاً مع أحد ، تمنيت لو يغفو قليلاً ليتسنى لي رؤية الحسناء التي تجلس الى جانبه لكنه قابعٌ في مكانه كحجر ، نزل الباعة من القطار و أُعلن استئناف الرحلة ، أخرجت ورقةً صغيرةً و كتبت عليها رقم هاتفي و أطبقت عليها جيداً ، مضى الوقت سريعاً و اقتربنا من المحطة الأخيرة ... توقف القطار و استعد المسافرون للنزول ، وقف العابس أمامي بينما أفسحتُ المجال للفتاة التي تجلس الى جانبه أن تقف خلفه و دون أن يلحظني احد ، دسست الورقه في يدها ، كانت حرارةُ كفها كفيلةً بأن تحرق جسدي كاملاً ، و خفت في لحظات أن تلتفت الي و تصفعني ، لكنها أخذتْ الورقة مني و وضعتها في حقيبتها و نزلت قبلي يسبقها الرجلُ العابس ، و حين هممتُ بالنزول كانت قد اختفت بين حشود المسافرين ، و تركت ظلها في عيني ، حاولتُ أن أبحث عنها ، لكن جمهرةً من الناس كانت باستقبال العابس منعتني من متابعة بحثي عنها ، لفت انتباهي صوتُ بكاء فعدت أدراجي بضع خطوات لأجد ذلك الرجل و قد ارتمى في حضن امرأةٍ ما و شرع بالبكاء بصوتٍ عالٍ ، بينما وضع رجل آخر يده على كتفه قائلاً : يا أخي ادعُ له بالرحمة ، لا حول الا بالله ... اقتربتُ من أحد الذين كانوا يرافقون المرأة و سألته "ما الذي يجري ! " ، فأجابني أن الرجل قد فقد ابنه الوحيد ، توفي البارحة في حادث سير ، بينما كان والده مسافراً ليخطب له احدى قريباته ، تراجعت الى الخلف و كدت أسقط ، رأيت الضباب يلتف حولي ، يحجب الناس عني ... ابتعدت ما استطيع ، رميت بما تبقى من أفكارَ في رأسي تحت أقدام المارة و هربت ، استقللت سيارة الأجرة متجهاً الى منزلي و ذلك المشهد الجنائزي يضرب على رأسي طوال الوقت بعصاً من خشب البلوط القاسي ، بينما كان سائق السيارة يراقبني من خلال مرآته ، يتفحص وجهي ، يبحث عن اجابات ، " الوجوه لا تُفصح سيدي " ... قلت له ، بيد أنه لم يفهم و اكتفى بهز رأسه ، أعطيته أجرته ... و مضيت نحو شقتي ، و ما أن دخلتها حتى ارتميتُ على سريري ، أنهكني تعبُ السفر فغفوت و أنا أرتدي حذائي و ملابسي ، و بعد بضع دقائق أيقظني صوتُ هاتفي و هو يرن ، فرددتُ بصوتٍ نصف نائم : ألو نعم " صوتٌ نسائيٌ ناعم ، داعب ما تبقى من وعيي ، فنفض جسدي بقوة لأنهض من السرير كالأسد ، هل عرفتني ! قال الصوت الرقيق . بالتأكيد عرفتكِ ، لم أتوقع هاتفاً سريعاً منكِ يا لسعادتي . لو لم أرد التكلم معكْ لما أخذتُ منك الورقة ... قالت بهدوء و صمتت قليلاً ثم تابعت " ألو مازلتَ هنا " نعم نعم أنا هنا ، لكني استمتع بسماع موسيقى صوتكِ العذب "، أجبتها بعد أن استحضرت بعض كلمات الغزل ،... " اسمع ؛ أتقاضى في الليلة مئة جنيه ، ما رأيك ! فركت عيني ، شربتُ جرعة ماء و ظننت أنني أهلوس و أجبتها متلعثماً " عفواً لم أفهم " ... اختفى الصوتُ الرقيق و تحول الى صوت ساحرةٍ شمطاء ، وضحكتْ ضحكةً وضيعة ، شاركها الأحتفال بسذاجتي خليطٌ من أصواتَ شيطانية رجالية و نسائية ، لم أستطع الكلام ، اكلتُ لساني و لم تكن قطتي هي الفاعلة ، بينما علا صوتها على الجهة الأخرى " ألو ألو ألو ، احمق " و أغلقتْ الخط ....... هرعتُ الى مرآتي ، نظرتُ الى وجهي ، لم أعد أميز ملامحي ، سقط أنفي ، لا عينان لي ، لا فم ... مجرد ملامح مبهمة ...... لم أعد حتى أعرف نفسي .