(كيف يُشْرِقُ قَلْبٌ صور الأكوانُ منطبعةٌ في مِرْآتِه؟ أم كيف يَرْحَلُ إلى اللّه وهو مُكَبَّلً بشهواتِه؟ أم كيف يطمع أن يدخل حضرةَ اللّه وهو لَمْ يَتَطَهَّرْ من جَنَابة غفلاته؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لمْ يَتُبْ من هفواته؟). يشرق: أي يستنير ويضيء، وصور الأكوان: أشخاصها وتماثيلها الحسية والمعنوية، والأكوان: أنواع المخلوقات دقت أو جلت، ومنطبعة: أي ثابتة. جعل الله قلب الإنسان كالمرآة الصقيلة ينطبع فيها كل ما يقابلها وليس لها إلا وجهة واحدة، فإذا أراد الله عنايته بعبد شغل فكرته بأنوار ملكوته وأسرار جبروته، ولم يعلق قلبه بمحبة شيء من الأكوان الظلمانية والخيالات الوهمية، فانطبعت في مرآة قلبه أنوار الإيمان والإحسان، وأشرقت فيها أقمار التوحيد وشموس العرفان. أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته: الرحيل مع التكبيل لا يجتمعان، فما دام القلب محبوساً بالميل إلى شيء من هذا العرض الفاني ولو كان مباحاً في الشرع فهو مقيد به ومكبل في وطنه، فلا يرحل إلي الملكوت، ولا تشرق عليه أنوار الجبروت، فتعلق القلب بالشهوات مانع له من النهوض إلي الله لاشتغاله بالالتفات إليها، وعلى تقدير النهوض معها تكون مثبطة له عن الإسراع بالميل إليها، وعلى تقدير الإسراع، فلا يأمن العثار لأنس النفس بها، ولذلك ترك الأكابر لذتها. أم كيف يطمع أن يدخل حضرةَ اللّه وهو لَمْ يَتَطَهَّرْ من جَنَابة غفلاته: الحضرة: هي حضور القلب مع الرب. وهي مقسمة على ثلاثة أقسام: حضرة القلوب، وحضرة الأرواح، وحضرة الأسرار. فحضرة القلوب للسائرين. وحضرة الأرواح لأهل المشاهدة، وحضرة الأسرار لأهل المكالمة. وسر ذلك أن الروح ما دامت تتقلب بين الغفلة والحضرة كانت في حضرة القلوب، فإذا استراحت بالوصال سميت روحاً وكانت في حضرة الأرواح، وإذا تمكنت وتصفت وصارت سراً من أسرار الله سميت سراً وكانت في حضرة الأسرار. الحضرة مقدسة منزهة مرفعة لا يدخلها إلا المطهرون، فحرام على القلب الجنب أن يدخل مسجداً الحضرة، وجنابة القلب غفلته عن ربه. قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا": أي لا تقربوا صلاة الحضرة وأنتم سكارى بحب الدنيا وشهود السوي، حتى تتيقظوا وتتدبروا ما تقولون في حضرة الملك، ولا جنباً من جماع الغفلة وشهود السوى حتى تتطهروا بماء الغيب. أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته: الرجاء: تمنى الشيء مع السعي في أسبابه وإلا فهو أمنية، والفهم: حصول العلم بالمطلوب، ودقائق الأسرار غوامض التوحيد . والتوبة: الرجوع عن كل وصف ذميم إلى كل وصف حميد، وهذه توبة الخواص. والهفوات : جمع هفوة وهي الزلة والسقطة. فهم دقائق الأسرار لا يكون أبداً مع وجود الإصرار، أو تقول: فهم غوامض التوحيد لا يكون إلا بقلب فريد، من لم يتب من هفواته ، ويتحرر من رق شهواته، فلا يطمع في فهم غوامض التوحيد، ولا يذوق أسرار أهل التفريد.