30) الحكمة الثلاثون : (تَشَوَّفُكَ إلى ما بَطَنَ فيك من العُيُوب خَيْرً من تشوُّفَك إلى ما حُجِبَ عنك من الغيوب). التشوف إلي الشيء: الاهتمام به والتطلع له. تشوفك أيها الإنسان إلى ما بطن فيك من العيوب، كالحسد والكبر وحب الجاه والرياسة وهم الرزق وخوف الفقر وطلب الخصوصية، وغير ذلك من العيوب، والبحث عنها، والسعي في التخلص منها أفضل من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب كالإطلاع على أسرار العباد، وما يأتي به القدر من الوقائع المستقبلة، وكالإطلاع على أسرار غوامض التوحيد قبل الأهلية له، لأن تشوفك إلى ما بطن من العيوب سبب في حياة قلبك، وحياة قلبك سبب في الحياة الدائمة والنعيم المقيم، والإطلاع على الغيوب إنما هو فضول. وقد يكون سبباً في هلاك النفس، كاتصافها بالكبر ورؤية المزية على الناس. واعلم أن العيوب ثلاثة: عيوب النفس، وعيوب القلب، وعيوب الروح. فعيوب النفس: تعلقها بالشهوات الجسمانية، كطيب المآكل والمشارب والملابس والمراكب والمساكن والمناكح. وعيوب القلب: تعلقها بالشهوات القلبية، كحب الجاه والرياسة والعز والكبر والحسد والحقد، وحب المنزلة والخصوصية. وعيوب الروح: تعلقها بالحظوظ الباطنية، كطلب الكرامات والمقامات والقصور والحور، وغير ذلك من الحرف. فتشوف المريد إلى شيء من ذلك كله، قادح في عبوديته، مانع له من القيام بحقوق ربوبيته فاشتغاله بالبحث عن عيوبه النفسانية والقلبية والروحانية، وسعيه في التطهير من جميع ذلك أولى من تشوفه إلى ما حجب عنه من علم الغيوب كما تقدم، وبالله التوفيق. 31) الحكمة الحادية والثلاثون : (الحقُّ ليْسَ بِمَحْجُوب عنك، إنما المحجوبُ أنتَ عن النظر إِليه، إذ لو حَجَبَ اللّه شَيْءٌ لستره ما حَجَبه، ولو كانْ له سَاتِرٌ لكان لوجوده حَاصرِ، وكل حاصر لشيء فهو له قَاهِر، واللّه هو القاهر فوق عباده). الحق تعالى محال في حقه الحجاب، فلا يحجبه شيء، لأنه ظهر بكل شيء وقبل كل شيء وبعد كل شيء، فلا ظاهر معه، ولا موجود سواه، فهو ليس بمحجوب عنك، وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه، لاعتقادك الغيرية، وتعلق قلبك بالأمور الحسية، فلو تعلق قلبك بطلب المولى وأعرضت بالكلية عن رؤية السوي، لنظرت إلى نزر الحق ساطعاً في مظاهر الأكوان، وصار ما كان محجوباً عنك بالوهم في معد الشهود والعيان. فالناس كلهم يشاهدون ولا يعرفون، وكلهم في البحر ولا يشعرون. ويقول الإمام ابن عجيبة: وسمعت شيخناً رضي الله عنه يقول: والله ما حجب الناس عن الله إلا الوهم، والوهم أمر عدمي لا حقيقة له اه. إذ لو حجبه تعالى شيء حسي لستره ذلك الحجاب، ولو كان له ساتر حسي لكان لوجوده حاصر، إذ محال أن يستره من جميع الوجوه ولا يحصره، وكل حاصر لشيء فهو له قاهر، كيف والله تعالى يقول: "وهو القاهر فوق عباده". أي لأنهم في قبضته، وتحت تصريف قدرته، وتخصيص إرادته ومشيئته. والفوقية: عبارة عن رفعة الجلال والمكانة لا المكان، كما يقال السلطان فوق الوزير، والسيد فوق عبده، والمالك فوق المملوك، وغير ذلك مما يثبت الكبرياء وينفي سمات الحدوث، والله تعالى أعلم.. 32) الحكمة الثانية والثلاثون : (اخْرُجْ من أوصْافِ بَشِرِيَّتِك عن كُلَّ وَصْفٍ مُنَاقِضٍ لِعُبوُديَّتِكِ، لتكون لنداء الحق مُجَيباً، ومن حَضْرَتِه قريبا). أوصاف البشرية هي الأخلاق التي تناقض خلوص العبودية، ومرجعها إلى أمرين: الأول: تعلق القلب بأخلاق البهائم، وهي شهوة البطن والفرج، وما يتبعهما من حب الدنيا وشهواتها الفانية. قال تعالى: "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الدنيا والله عنده حسن المآب". الثاني: تخلقه بأخلاق الشياطين، كالكبر والحسد، والحقد والغضب، والأشر: وهو التكبر، وحب الجاه والرياسة، والمدح، والقسوة والعطاء والفظاظة والغلظة، وتعظيم الأغنياء، واحتقار الفقراء، وكخوف الفقر وهم الرزق، والبخل والشح، والرياء والعجب، وغير ذلك مما لا يحصى. ومن ألقاه الله إلى شيخ التربية فلا يحتاج إلى شيء سوى الاستماع والإتباع، فإذا خرج المريد من أخلاق البهائم تخلق بأخلاق الروحانيين كالزهد والورع والقناعة والعفة، والغنى بالله، والأنس به، وإذا خرج كم أخلاق الشياطين تخلق بأخلاق المؤمنين، أو بأخلاق الملائكة، كالتواضع وسلامة الصدور، والحلم والسكينة والرزانة، والطمأنينة والسهولة والليونة، والخمول، والاكتفاء بعلم الله. فإذا تخلق العبد بهذه الأخلاق وتحقق بها ذوقاً بعد أن تخلص من أضدادها كان عبداً خالصاً لمولاه، حراً مما سواه، وكان لندائه مجيباً ومن حضرته قريباً.