لم يكن رئيس وزراء الكيان الصهيوني في حاجة إلى أي جهد لكي يلقى استحسان الكونجرس الأمريكي. فحتى قبل أن يتفوه "حبيب" أمريكا والكونجرس بأي من كلماته "المعسولة"، التي لا تستعذبها إلا الأذن الأمريكية المُوّلفة فقط على سماع منطق إسرائيل، رغم إعوجاجه دائما وأبدا، واصل الحضور الوقوف والتصفيق، وعلى مدار كلمته التي لم يقدم فيها أي تنازل، بل على العكس أبدا عجرفة وعبّر عن نفس لاءاته السابقة وأكثر، ظل أعضاء الكونجرس الأمريكي يتناوبون الوقوف والتصفيق على مدار الكلمة، حتى آلمتهم ركبهم وأحمرت أيدهم، في سلوك لا يختلف عن سلوك القطيع الحيواني القائم على المحاكاة والمجاراة، فما أن يقف أحد محبي إسرائيل ويأخذ في التصفيق، حتى يقلده الآخرون، وكأن هناك من سيسجل اسم من يتخلف عن الوقوف والتصفيق. وبعيدا عن سلوك القطيع الذي يحكم سلوك أعضاء الكونجرس الأمريكي، والساسة الأمريكيين عموما، فإن هذا الاصطفاف الدائم والأبدي في صف إسرائيل وفي الضد من كل المصالح العربية، كما في موقفهم من انفصال جنوب السودان ومن دخول الجيش السوداني إلى أبيي، يقول صراحة أن الغرب لم يبرح عقلية الحروب الدينية القروسطية بعد. إن المشكلة في وساطة أمريكا والغرب في الصراع العربي الإسرائيلي، ودورها في كل القضايا التي تتضمن العرب والمسلمين، هي أن أمريكا، باعتبارها قائدة الغرب المسيحي حاليا، لا تزال تحركها عقلية الإمبراطوريات الدينية التي سادت القرون الوسطى. فهي تتبنى مواقف ومصالح إسرائيل في أرضنا العربية في فلسطين، والأفارقة في جنوب السودان، والسيخ والبوذيين في الهند. وفي أي مكان آخر تجدها تقف موقف الضد من مصالح العرب والمسلمين، وللأمانة باستثناء موقفها من الصراع في البوسنة والهرسك. كنا نأمل أن تُقرّب الثورات الديمقراطية بيننا وبين الغرب وأمريكا، وكنا نود أن تقترب أمريكا من المواقف العربية في كافة الصراعات. لكن الأيديولوجيا الدينية يبدو أنها لم تفارق قمرة القيادة في المجتمع الغربي. لستُ ممن تسيطر عليهم عقلية المؤامرة، أو ممن يقعون فريسة للتفكير الديني، لكن الموقف الأمريكي المهيمن لا يترك حتى لأكثر العرب إيمانا بالديمقراطية والعلمانية بدا من هذا التشريح للموقف والانحياز الأمريكي. فوالله لو أقام العرب أفضل واحات الديمقراطية في العالم، وحتى لو تبنت حماس والعرب جميعهم من ورائها شعار "إسرائيل أمنا"، فلن يتغير موقف أمريكا المنحاز إلى إسرائيل. كنتُ دائما ضد من يُضفون مسحة دينية على مقاومتهم للاحتلال، سواء في فلسطين أو العراق، وأرى أن مكاسبها أقل من مضارها، وأرى أن المقاومة، حتى المسلحة، غير المكتسية بوشاح ديني، هي الأجدر بأن تُكسِبنا تعاطفا على المستوى الدولي: الرسمي والشعبي. لكن هذه العقلية الدينية التي لا تزال تسيطر على الغرب وأمريكا من شأنها أن تغذي التناول الديني والمقاومة المسلحة ذات الرداء الديني في المجتمعات العربية والإسلامية، التي يسميها الغرب "إرهابا". فماذا يكون الرد على العقلية الدينية الغربية إلا عقلية دينية عربية وإسلامية؟ ليس ذلك من جانبي دعوة إلى الإرهاب أو تبريرا له، وإنما فحسب تحميل المسؤولية عنه لأمريكا والغرب اللذان لا تزال العقلية الدينية تحكم أفعالهما. ولا أمل لنا إلا في بناء دول ديمقراطية قوية تعبر عن آمال وتطلعات شعوبها، وليس لكي نحرم إسرائيل من التشدق بأنها واحة الديمقراطية الوحيدة في صحراء الاستبداد العربي، فحتى ذلك لن يُقرّبنا من أمريكا والغرب. فالدول العربية المسنودة شعبيا والقيادات المنتخبة بطريقة حرة ونزيهة وشفافة هي الضمانة الوحيدة لفرض أولوياتنا ومصالحنا على الآخر، حتى لو كان القوة العظمى – أمريكا. وبينما أنا أرى عنجهية نتنياهو في خطابه أمام الكونجرس، وأرى الضعف العربي الذي تسبب فيه طواغيت العرب، وعلى رأسهم مبارك وآل الأسد على حد السواء، وأرى الرئيس السوري "المقاوِم" وجيشه يواصل قتل شعبه وإضعاف دولته وموقفها، وأرى القذافي وقد أدخل شعبه في حرب أهلية، وعلي صالح مصمم على إدخال شعبه مكرها فيها، بينما أرى كل ذلك لا أجد مهربا من كلمات نجيب سرور للرد على نتنياهو "ملعون أيو اللي خلى للي زيك بوق"، لكنه أدب الحديث العام الذي يمنعني، حتى وإن كان كل كلام نتياهو أمام الكونجرس خالي من أي أدب، وإن كان تصفيق أعضاء الكونجرس له حتى أحمرت أيديهم خالي من أي تعقل أو تدبر من النوع الذي يميز البشر. دكتور مصطفى قاسم [email protected]