لأنّي عراقي عاش الحروب و الفوضى و دفع لها ثمنا غاليا و لا يزال ... لأني أخشى على مصر من ما الت أليه الأمور في العراق و أن أختلفت الظروف و الدوافع, كتبت مقالتي أدناه التي أرجو نشرها في مطبوعتكم و مشاركة طروحاتي فيها مع قرائكم علي شاكر مهندس معماري و فنان تشكيلي ثورة مصر بعيون عراقية بعد أن شاهدت بأم عينيها جسديّ نجليّ الرئيس العراقي ممدّدين في خيمة و كاميرات التلفزيون مسلّطة عليهما, توجّهت زوجة الرئيس الليبي الى زوجها لتطلب منه أن يكف فورا عن سياساته و تصريحاته الأستفزازية ضد الولاياتالمتحدة و أسرائيل ... و قد كان! بين ليلة و ضحاها تغيرت أستراتيجية ليبيا مئة و ثمانون درجة لتعود الى حظيرة الدول العربية المهادنة للغرب بعد عقود من الصدامات و الشتائم بل و حتى المواجهات العسكرية, فقط لأنّ زوجة الرئيس أفزعها أن يأتي يوم ترى فيه جثث أبنائها على طاولة ما أمام أنظار العالم بينما تحتمي هي بجدران قصر ضيافة صحراوي تسكن فيه على مضض. للأسف فأن سياساتنا العربية العليا لا ترسمها مصالحنا كشعوب بقدر ما يحكمها جشع و أهواء بل و حتى مخاوف حكّامنا الشخصية ... كان حتما أن أتذكر تلك الرواية التي قرأتها في كتاب عن حياة الصحفية و الأعلامية الأمريكية باربرا والترز التي زارت طرابلس قبل سنوات عدّة و حاورت الزعيم الليبي في خيمته, بل أنها تجرأت و سألته السؤال الذي يراودنا جميعا: "سيادة الرئيس, هل أنت مجنون؟" فجأة, و كأن قادتنا قد أستفاقوا من سبات طويل على مد الديمقراطية الذي بات يتهددهم, التصريحات و الوعود بأنتخابات نزيهة, سقف أعلى للحريات و أصلاحات أقتصادية قادمة صارت تلاحقنا من كل حدب و صوب ... أولئك الذين طالما ركّعونا صاروا يركعون أمامنا طالبين الرأفة بهم و بأبنائهم الذين عاثوا في أرضنا فسادا و فجورا, فسبحان مغيّر الأحوال! أحداث مصر أجتاحتني كالطوفان, جزء مني كان فرحا ... أخيرا جاء التغيير, لوهلة كنا قد فقدنا الأمل, رؤساؤنا جاءوا ليبقوا, و بعد أن يموتوا- بعد عمر طويل - سيتركون العروش لأبنائهم و حفدتهم ... ثوّار الأمس الذين أطاحوا بالملكيّات في أوطانهم صيّروا أنفسهم ملوكا عليها و أباطرة, لكن ذلك كلّه تغيّر بين ليلة و ضحاها. من كان ليصدق أن يأس رجل معدم في تونس اثر أن يحرق نفسه على مرأى من العالم سيهز عروشا عتيدة و تيجانا من المحيط الى الخليج؟ فها هي مصر تثور على حاكمها بعد أسابيع من ثورة تونس على زين العابدين بن علي و فراره الى السعودية لاجئا فيها, و الله وحده يعلم من تراه يكون التالي على قائمة الغضب و التغيير. لكن مبارك, أو حتى بن علي, قد لا يكونان أسوأ حكّامنا رغم أنّ معايير السوء أو الجودة قد تختلف بأختلاف بلداننا و الشعوب, فما يعدّ سيئا في لبنان قد لا يكون كذلك في الخليج مثلا, و بينما يرى المصريون في رئيسهم (السابق) طاغية لم يشهد له التأريخ مثيلا, قد يرى بعض العراقيين فيه حاكما لينا متساهلا, جنّب شعبه ويلات حروب عبثية أطاحت بالعراق و فجّرت الدماء فيه أنهارا قبل أن تأتي على بنيانه كاملا ... على الأقل كان للمصريين في عهد مبارك أحزاب معارضة, و كان لهم أن يخرجوا الى الشوارع و الساحات هاتفين ضد التوريث و الفساد ثم يعودون بعد ذلك الى أهليهم و ديارهم سالمين امنين ... ذلك ترف لم تعرفه الشعوب في بلدان كثيرة ليست ببعيدة عن مصر! جزء اخر مني يغبط المصريين على ما فعلوه و لا يكف عن التساؤل: أما كان الأجدر بنا أن نفعل ذات الشيئ في العراق بدلا من تدخّل الأجنبي و غزوه بلدنا؟ الجواب يأتي حاسما: كلا! كان حتما على مبارك أن يرحل, لا شك في ذلك, اذ لا يعقل أن يبلغ الرجل من العمر أرذله و يتمسك بكرسي الرئاسة بهذا الشكل المقيت, فالرئيس في النهاية ليس سوى موظف عام جاء ليؤدي خدمات و مهاما محددة لفترة محددة يسلّم بعدها سدة الحكم الى من يخلفه في خدمة شعبه, الأمر بطبيعة الحال يختلف تماما في الأنظمة الملكية التي يكون الملك فيها رمزا وطنيا قد لا يمتلك, أو لا يفترض أن يمتلك الكثير من الصلاحيات. لا بد هنا من استذكار سطور كنت قد قرأتها قبل سنوات من رواية "شيكاغو" للكاتب المصري المعارض د. علاء الأسواني عن زيارة متخيلة للرئيس المصري الى الولاياتالمتحدة, يصف فيها وجه الرئيس و قد ترهّل حتى صار من الصعوبة بمكان أن يبقي عينيه مفتوحتين رغم الصبغة الداكنة على شعره و مساحيق التجميل التي غطّت بشرته ... تلك السطور, بل الرواية بأكملها, أذهلني أنها قد طبعت و نشرت و حققت نجاحا هائلا و الرئيس مبارك كان لا يزال في السلطة و لم يصب أيّ من كاتبها أو أسرته أو جيرانه أو حتى أفراد كانوا قد عرفوه يوما بسوء! تذكرت عراقيين كانوا قد تجرّأوا و ذكروا رئيسهم يوما بسخرية في مجالسهم الخاصة, أو حتى في مخادعهم الزوجية, فأختفوا من على وجه الأرض و لم يعد أحد يعرف عنهم شيئا, بل منع ذووهم من أقامة مجالس العزاء حزنا عليهم ثم سارت الجرّارات لتسوّي دورهم بالأرض تاركة من بقي من أسرهم مشردين و متسولين حماية ما كان لأحد حينها أن يمنحها لهم ... نعم, ثمّة فرق كبير بين الرئيسين, لكن ثمّة تشابه أيضا. كعراقي عاش مخاطر التغيير الفجائي, و دفع و لا يزال يدفع و شعبه ثمنا فادحا له, أخشى على المصريين من مصير كمصير العراق بعد الحرب الأخيرة و أن أختلفت الظروف و الدوافع ... مشاهد النهب و الحرائق كائن من كان المتسبب بها, صرخات النساء المستنجدة و أصوات الأطلاقات النارية لامست فيّ جرحا لم يندمل, المتني بشدّة بل أفزعتني و جعلتني أتنقّل عبثا من محطة الى أخرى بحثا عن مهرب ... لكن الصور ذاتها تكرّرت في كل مكان, الأحتجاج السلمي في ساحة التحرير تحوّل الى مذبحة و فوضى. لا شك أن نشوة الثورة تسكر الثائرين و قد تعمي أبصارهم و بصائرهم, فهي تعطي المعدمين و المهمّشين صوتا تردده الجموع من ورائهم, و صورة تتناقلها محطات التلفزة في العالم أجمع ... طاقة مهولة في الأثير تسري كالعدوى بين صفوف الثوّار, لم يعد ممكنا أن يعودوا الى مساكن الصفيح و المقابر التي سكنوها طويلا, حتى النخب المثقفة التي شاركت في الثورة, و في ميدان التحرير كثرة منهم كما علمت, هم أيضا غاب صوت العقل عن بعضهم ... صاروا كتلة من الغضب تمشي على أقدام بشرية, و قبضات تلوّح في الهواء, و صرخات مدويّة. تحقق معظم ما كانوا يطالبون به, الرئيس خرج اليهم واعدا بعدم تجديد ولايته, وعدهم أيضا بأصلاحات دستورية حقيقية و بعدم توريث السلطة لنجله, بل أنه تنازل عن صلاحياته لنائبه, لكن الثوّار لا يهدأون و يرفضون المغادرة حتى يتنحّى, يظنون أنّه ما أن يرحل حتى تنزل عليهم من السماء مائدة تكون عيدا لأولهم و اخرهم و غاب عنهم أن الصدمات غالبا ما تورث الشعوب جوعا و فقرا و نزاعات ... أما الان و قد تنحّى مبارك, فماذا بعد؟ "أعطوهم أوسمة, أقيموا لهم النصب و أطلقوا أسماءهم على الساحات و الشوارع, و لكن لا تعطوهم سلطة لا خبرة لهم بها لو أتيحت لهم, سيسيئون حتما أستغلالها" ... سطور أخرى أقرأها في كتاب لمفكر الهند الشهير أوشو ... تستوقفني المفارقة, أليس غريبا أن يقع هذا الكتاب القديم بين يديّ الان؟ أعيد قراءة السطور مرة تلو الأخرى, فعلا ... الثوار لم يحكموا بلدا ألّا زادوه خرابا, و لمصر بالذات معهم تأريخ طويل ... فهل لثوّارساحة التحرير أن يسكنوا الان ليختاروا من بين صفوفهم, أو حتى من خارجها حكماء و ساسة متمرسين ليقودوا سفينة التغيير الى بر الأمان ... ألا يكفي ما سال حتى الان من الدماء؟ الكل كان يتحدث عن فقدان الضمانات, لم يكن أحد يثق بالرئيس الذي طالما وعد فأخلف رغم أن العالم كله كان شاهدا على وعوده هذه المرة, الجيش أعلن ضمانته للتغيير لكن الثوّار يزدادون عنادا ... لكن, لو نظرنا الى الخلف قليلا, هل كان يمكن أن يحدث ما حدث لو لم نكن نعيش عصر العولمة بكل ما له و ما عليه؟ ثورة الأتصالات و الأنترنت التي يهاجمها شيوخنا كل ظهيرة جمعة من على منابر المساجد و يرون فيها أباحية و مفسدة للعقول هي التي حملت صوت الشعوب المقموعة و أسمعته للعالم أجمع و هي الضمانة الحقّة و الرقيب هذه الأيام. قبل عقدين من الان كان سهلا أن تتوجه الدبابات الى جموع المتظاهرين لتسحقهم عن بكرة أبيهم فلا أذن سمعت و لا عين رأت, حدث ذلك بالفعل في العديد من الدول العربية ... لحسن الحظ, فأن العقوبات الجماعية لم تعد خيارا متاحا في عالمنا المفتوح, فالجميع يرى و يراقب حتى في أكثر الدول أنغلاقا و قمعا كأيران أو حتى أسرائيل في مواجهاتها مع الفلسطينيين ... لا حدث يمر مرور الكرام بعد اليوم. لو تمكن القضاء الدولي و المحلي من تعقب الطغاة بعد هروبهم ... لو جاء بهم الى المحاكم و حاسبهم على ما أقترفوه بحق شعوبهم, لو تمّ تجميد أرصدتهم المودعة في مصارف أوروبا و الولاياتالمتحدة, و لو تمّت تصفية عقاراتهم و أستثماراتهم هناك, لو أنتهى الحال بهم و بأزلامهم الى السجون بعد محاكمات عادلة مفتوحة ... لو تحقق ذلك يوما ما و لعلّه يكون قريبا, فكلّي أمل و ثقة بأن سادة الغد سيفكّرون ألف مرّة قبل أن يقدموا على ما فعل أسلافهم, بل لعلهم يتركون الطغيان وراءهم لنتجاوز معا ذلك الأرث المقيت الذي أحتملناه أجيالا و قرونا كما فعلت أوروبا منذ زمن طويل. كل الشكر و العرفان لذلك الشريف المعدم من تونس الذي أحترق بنيران يأسه لتنهض من رمادها شعوبا حرّة كريمة ... لكن قبل الأغراق بالتفاؤل, و حتى يكون لما فعله محمد البو عزيزي أثرا و قيمة, فلنحذر أولا من جنون الثورة و غوايتها, فاخر ما نريده أن تراق الدماء لتطيح بالطغاة عن عروش يخلفهم عليها طغاة جدد أشد جشعا و فسادا و ظلما ... أتوسل المصريين المحتشدين في الساحات و الشوارع أن لا يدعوا مأساة العراق تتكرّر على أرضهم فقد كفانا و كفاهم خرابا و حروبا و فوضى