يخطئ من يعتقد انه بتسمية رئيس الوزراء العراقي وتكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة سيكون ذلك البداية ونقطة الانطلاق نحو انفراج الأزمة العراقية وانتشال الشعب العراقي من المعاناة التي يرزح تحت وطأتها علي مدار السنوات التي جاءت بعد سقوط النظام العراقي السابق. فمثل هذا التفكير فيه اختزال شديد للمسألة العراقية، وتبسيط مخل لقضية أضحت معقدة نتيجة تداخل عوامل داخلية وخارجية لاتزال تفعل فعلها في تأخير وضع نهاية للمأساة العراقية. قبل الخوض في غمار الأسباب الداخلية والخارجية التي أدت إلي المشكلة العراقية دعونا نتوقف عند ما ذكرناه، وهو ان مشكلة العراق لا تكمن في اختيار رئيس الحكومة، بل ان المشكلة تبدأ في اعتقادنا علي من وقع عليه الاختيار في تولي هذا المنصب، وهل هو يمثل كل العراقيين أم أنه يمثل طائفة بعينها. في الحالة العراقية نجد أن النظام الأساسي للدولة العراقية الذي أشرف علي كتابته "بريمر" الحاكم المعين من قبل سلطة الاحتلال الأمريكي يقوم أساسا علي المحاصصة الطائفية والعرقية، وهذا في اعتقادي بداية الفتيل لإشعال الأزمة والدليل علي ما نقول هو أن الشعب العراقي قد جرب حكومة "الجعفري" وشاهد بأم عينيه ولايزال يشاهد كيف آلت إليها الأمور بالرغم من الوعود والعهود التي قطعها الجعفري علي نفسه عند توليه الحكومة بأن يبذل قصاري جهده في معالجة جميع الملفات الأمنية والسياسية والاقتصادية للمشكلة العراقية. فالشعب العراقي لم ير أي شيء من تلك الوعود علي الأرض، وإنما كل ما رآه هو العكس من ذلك تماما، فمعالجة ملف الوضع الأمني الذي جاء علي رأس الأولويات في أجندة برنامج حكومة الجعفري قد تضخم، ومسلسل الذبح والقتل والتدمير للشعب العراقي مازال متصدراً نشرات الأخبار. كما أن الفساد المالي، وبيع النفط العراقي لصالح بعض الأحزاب من دون علم وزارة المالية والحكومة كما نشرت بعض الصحف مؤخراً قد حدث في عهد الحكومة السابقة. في ظل هذه المشكلات التي سترثها الحكومة الجديدة، فهل من أمل في إصلاح ما أفسدته حكومة الجعفري؟ نتمني ذلك من صميم قلوبنا، ولكن ليس بالتمني وحده يمكن حل المعضلة العراقية خاصة أن رئيس الوزراء المكلف قد لا يختلف كثيراً عن سلفه، لأنه لم يأت من خارج الحزب الذي ينتمي إليه، فهو أحد صقوره البارزين، وأحد رموزه الذي يحمل الأفكار والطروحات نفسها التي يؤمن بها الدكتور إبراهيم الجعفري، في معالجة القضية العراقية. وإذا كان هناك اختلاف بينهما فهو في وسائل تنفيذ تلك الأفكار، أما الاستراتيجية فهي واحدة، وذلك لسبب بسيط وهو أن منبعها واحد. وللتدليل علي كلامنا هو حرص نوري كامل المالكي في انتقاء مفردات خطابه الإعلامي والسياسي بذكاء وعناية، لأنه يدرك جيداً، وهو المتخصص في اللغة العربية، دور الكلمة في التأثير علي المتلقي، ومن هنا يحاول الابتعاد عن أخطاء سلفه ويعمل علي تجنبها، ولذلك نراه في خطابه السياسي والإعلامي متزناً منذ تكليفه بتشكيل الحكومة، فهو يركز علي الوحدة الوطنية ووحدة العراق وغيرها من الألفاظ التي تظهره بأنه يمثل كل العراقيين، بغض النظر عن الحزب الذي ينتمي إليه، ونحن إذ نتمني من كل قلوبنا أن يكون ذلك فإننا ندعو له بالتوفيق في مهمته الصعبة. وفي الوقت ذاته فإن الأمل يحدونا في أن يتحرر بالفعل من أفكاره الحزبية، ويكون ممثلاً للشعب العراقي بكل أطيافه السياسية، وألا يكون خطابه تكتيكياً مرحلياً، وأن يقرن أقواله بالأفعال ويترجمها علي أرض الواقع، وإذا كنا نتوسم في كلام "المالكي" الخير للعراق وللشعب العراقي بكل طوائفه وقواه وكتله السياسية، فإن صدقية خطابه السياسي والإعلامي ستظهر في تشكيل الحكومة، وهل سيقدم تنازلات بشأن الوزارات السيادية، خاصة وزارتي الداخلية والدفاع بإسنادها إلي شخصيات من خارج الائتلاف الموحد، أي من الأحزاب الأخري، وإذا كان ذلك صعباً عليه فهل بإمكانه إسنادها إلي شخصيات مستقلة علي الأقل. باعتقادنا أن هذا هو الاختبار الأول لرئيس الوزراء العراقي المكلف، فإذا اجتازه بنجاح فإن ذلك يدل علي أن المالكي قد وضع نفسه علي بداية الطريق لإنقاذ الشعب العراقي من محنته، وساهم في خروجه من نفقه المظلم. وإذا لم يأخذ بهذا التوجه فإن الوضع لن يتغير، ولن يكون هناك تغيير حقيقي في السياسة التي اتبعها سلفه في إدارة شئون الحكم أثناء رئاسته للحكومة، والأيام المقبلة ستؤكد ما نذهب إليه وإن كنا نود أن نري تغييراً فعلياً في سياسته بما يحقق مصالح الشعب العراقي. من ناحية ثانية، إن مشكلة العراق لا تكمن في رئاسة الحكومة، كما قلنا في بداية حديثنا، وإنما هناك عوامل أخري، وهذا يقودنا إلي تعرف هذه العوامل وأولها العامل الخارجي والمتمثل في الاحتلال الأمريكي والأخطاء الجسيمة التي ارتكبها بحق العراق والعراقيين، وهذا باعتراف رئيسة الدبلوماسية الأمريكية "كوندوليزا رايس" والعجيب في تصريحات رايس أنها لا تصف الاحتلال نفسه علي أنه خطأ من أصله، لكنها تخطئ السياسة الأمريكية بعد الاحتلال منذ تعيين "بريمر" الحاكم الأمريكي للعراق، وحتي تعيين سفيرها الأخير "زلماي خليل زاده" بعد الاحتلال، لكن غزو دولة ذات سيادة وعضو مؤسس في الأممالمتحدة، فهذا ليس بخطأ من وجهة نظرها! إن تدمير هياكل الدولة العراقية ومرتكزاتها، واستباحة كنوزه الحضارية للسلب والنهب، كل ذلك لا يهم مادام ذلك سيحقق الديمقراطية للعراق، وهذه ضريبة يدفعها الشعب العراقي في سبيل تخليصه من نظام حكمه السابق، هذا هو منطق الساسة الأمريكيين وحلفائهم المحليين. لقد استعانت الولاياتالمتحدة في غزوها للعراق ببريطانيا كشريك وحليف رئيسي لها وذلك للاستفادة من خبرتها الاستعمارية في تفكيك العراق وتمزيق أوصال الشعب العراقي وتحويل مواطنيه من الانتماء والولاء للوطن إلي الانتماء والولاء للطائفة والعرق، وقد نجح الأمريكيون وبدرجة كبيرة في تمرير هذه السياسة علي الشعب العراقي، فقسموه إلي شيع وأحزاب يسودها الاختلاف والتناحر. وقدموا لهم ذلك علي أنها الديمقراطية التي من سمتها الاختلاف. وكان ذلك منذ تأسيس مجلس الحكم ووضع الدستور المؤقت للدولة العراقية. إن هذه السياسة كانت البداية الأولي في هدم العراق كشعب ودولة. ومما يلفت النظر أن الأمريكيين والعسكريين منهم علي وجه الخصوص بدأوا يعترفون بخطأ الإدارة الأمريكية في غزو العراق ويطالبونها بسحب قواتها من هناك، إلا أن الأمر العجيب أن بعض الكتاب العرب وبالأخص بعض الخليجيين منهم يصفون الانسحاب بالكارثة حسب تعبيرهم، وأني لأعجب من هؤلاء في رؤيتهم للمسألة العراقية وللاحتلال! فهم يرونه ضرورة، وكأن الشعب العراقي لا يستطيع أن يعيش من غيره وكأنه في ظله أي الشعب العراقي يعيش في أمن وسلام وفي رغد من العيش الكريم . أما إذا ما خرج الاحتلال فهذه طامة كبري بالنسبة لهم وإصدار حكم بالإعدام علي الشعب العراقي. كل ما نقوله لهؤلاء كفاكم تزييفاً للوعي فإن أمركتكم لم تعد مقبولة في الشارعين العراقي والعربي. من جانب آخر، وفي سياق حديثنا عن العوامل الخارجية يجب ألا نغفل الدور الإيراني وتدخله المباشر في الأزمة العراقية، وهو أحد العوامل الخارجية وهو لا يقل كثيراً عن النفوذ الأمريكي البريطاني لأنه يتساوي معهما في التدخل في الشئون العراقية حتي وإن أنكر الإيرانيون ذلك. فالأمور أصبحت واضحة وجلية، وما قيام الولاياتالمتحدة بفتح قناة مع إيران بشأن المسألة العراقية إلا تأكيداً علي الدور الإيراني كطرف أساسي في المعادلة السياسية في العراق. وفي هذا السياق نقول: إن إيران استطاعت أن تحقق حلمها في أن تكون لها كلمة وحضور علي الساحة العراقية ما عجزت أن تأخذه بالحرب مع العراق طيلة ثمانية أعوام، وقدمت الولاياتالمتحدة الأميركة هدية علي طبق من ذهب لإيران بسياساتها الخاطئة في العراق بعد غزوه، وذلك من خلال تسلم الموالين لها زمام السلطة في العراق. ولقد استطاعت إيران أن تكسب أكثر من جولة في صراعها مع "الشيطان الأكبر" ليس علي الساحة العراقية فحسب وإنما حتي في تعاطيها مع ملفها النووي. وهذا حديث آخر ليس مجاله الآن وإن كان له تأثير في المسألة العراقية ،وهذا ما سوف تكشف عنه الأيام المقبلة. أما العامل الثاني فهو العامل الداخلي الذي ساهم ولا يزال يساهم في إطالة أمد الأزمة العراقية وإن كان بنسبة أقل ويتمثل في بعض الأحزاب والقوي السياسية التي ظهرت بعد سقوط النظام العراقي سواء العلمانية أو الدينية. هذه الأحزاب هي أيضاً تتحمل جزءاً من الوزر لما يحصل في بلاد الرافدين، فبتكالبها علي المناصب الحكومية وركضها وراء مصالحها قد أعماها عن النظر والتفكير في مصلحة الشعب العراقي ،وهذا بطبيعة الحال يؤخر وضع حد لنهاية مأساة العراق. وأخيراً يمكن القول، ان حل أي مشكلة يبدأ من البحث عن مسبباتها والعوامل التي تؤثر فيها، وفي الحالة العراقية وبعد استعراضنا فإننا نزعم بأن المسألة باتت واضحة وجلية لمن يريد الحقيقة، لا من لا يريدها ويتعمد أن يتجاهلها أو من يريد أن يغمض عيناً عن بعض الحقائق التي لا تعجبه لأنها تتعارض مع مصالحه، ويفتح عينه الأخري علي المسائل التي تتماشي مع أهوائه ومصالحه. وحل المشكلة العراقية يبدأ بمعرفة الأسباب التي أدت إليها وبإزالتها سيكون الطريق ممهداً لحلها. والسؤال الذي يمكن طرحه الآن هو: هل يعي جميع الأطراف المتسببين في الأزمة العراقية ان حل الأزمة يبدأ من تغيير مواقفهم تجاه العراق؟ هذا ما نأمله فهل يتحقق أملنا؟.