يحرص القادة الاوروبيون الذين يقومون بخفض الميزانيات الوطنية على اقناع الناخبين بأن الرعاية الصحية لن تمس لكنهم سيجاهدون للهروب من حقيقة أن خفض الانفاق في أي قطاع اخر سيؤدي في نهاية الامر الى خسائر في الارواح أيضا. فاذا كانت الاولوية الاولى لاي حكومة هي حماية حياة شعبها فان حماية الانفاق على الصحة مع خفض ميزانيات القطاعات الاخرى ومحاولة خفض أسعار الدواء - وهي سياسات تتبعها أوروبا - تبدو حينئذ كخيارات منطقية. ومع ذلك يقول الخبراء ان التخفيضات المزمعة في الرعاية الاحتماعية وغيرها من البرامج الحكومية ستؤثر على كل شيء من معاشات التقاعد مرورا بالاسكان الى الملاعب وجميعها ستؤثر أيضا على صحة الشعوب. واذا ارتفعت البطالة كما هو متوقع في دول مثل بريطانيا واسبانيا فقد تكون العواقب وخيمة. وباختصار يتعلق الامر بالصحة اكثر منه بالرعاية الصحية. وقال ديفيد ستوكلر من قسم علم الاجتماع بجامعة أوكسفورد "ستلحق هذه التخفيضات ضررا كبيرا بصحة الناس ... لا تقتصر العناية بالمرضى على الاطباء والدواء .. فالرعاية والدعم الاجتماعيان ضروريان لوقاية الناس من المرض." وقدر ستوكلر وزملاؤه في دراسة نشرت في دورية بريتيش ميديكال جورنال الطبية ان حالات الوفاة المرتبطة بتعاطي الخمور ستزيد نحو 2.8 في المئة وتلك المرتبطة بأمراض القلب 1.2 في المئة وذلك مقابل كل خفض مقداره 80 يورو (107 دولارات) تقريبا في انفاق الرعاية الاجتماعية بالنسبة للفرد. وكانت بريطانيا قد وضعت للتو مجموعة مؤلمة من اجراءات خفض الانفاق العام في حين تعتزم اليونان واسبانيا والبرتغال وايطاليا القيام بخفض شديد في موازناتها. وحتى المانيا أكبر اقتصاد اوروبي وان جاز القول أكثرها سلامة تستهدف توفير 80 مليار يورو من الميزانية على مدى السنوات الاربع المقبلة. وقال ستوكلر "حتى الان ركزت النقاشات بشأن الخفض الكبير في الميزانيات الى حد بعيد على تحسين الاقتصاد. لكن ... هذه التخفيضات سيكون لها أثر عكسي كبير على حياة الناس العاديين. فاذا كان باستطاعتنا تذكير صناع السياسة بأن هذه التخفيضات ستسبب معاناة حقيقية ... لربما اكتسبت (اجراءات ) الالم والتقشف التي يجري التفكير في فرضها على مدى عشرات السنين وجها انسانيا." كانت دراسات سابقة قد أظهرت أن معدلات البطالة لها تأثير شبه فوري على الصحة العقلية ومعدلات الانتحار. وقال جون ابلباي كبير الاقتصاديين بمركز كينجز فند للابحاث الصحية بلندن "من الصعب للغاية ربط ما يحدث هذا العام أو العام المقبل في ميزانيات الرعاية الاجتماعية وما يحدث في فترة ما في المستقبل بصحة الناس." وأضاف "لكن ما نعرفه حقا من كل الدراسات التي أجريت عليها من قبل أن البطالة ليست جيدة لصحة الناس. لذلك ... نعم ... ستكون هناك نسبة صغيرة ستعاني بشكل فاجع ... وبعبارة أخرى ستموت." وقد يسعى الساسة الذي يحاولون أن ينأوا بأنفسهم عن فكرة أن خفض الانفاق ربما يؤدي الى زيادة معدلات الوفاة الى القاء اللوم في ذلك على الركود نفسه. فقد وجد العلماء ارتباطا قويا بين معدلات النمو الاقتصادي الاعلى وانخفاض معدلات الوفاة. لكن ستوكلر قال ان الدليل يظهر ايضا ان هذا الارتباط يمكن ان ينفك اذا ابقي على الانفاق الاجتماعي خلال الاوقات الصعبة ويمكن خلافا لذلك ان يكون اكثر مباشرة اذا خفضت انظمة الدعم الاجتماعي تدريجيا بسبب اجراءات التقشف. واشار في هذا الصدد الى روسيا في اوائل التسعينيات حيث الغى اسلوب "العلاج بالصدمة" الرامي للاسراع بتحويل البلاد الى النظام الرأسمالي كثيرا من برامج الرعاية الاجتماعية للعمال والاسر والاطفال. وقال "هذه التغيرات الاقتصادية السريعة والبرامج التقشفية الصارمة ادت الى ازمة وفيات مدمرة وارتفاع فوري في معدل الانتحار والازمات القلبية والوفاة الناجمة عن تعاطي الخمور بالاضافة الى العجز في السيطرة على زياة الاصابة بفيروس اتش.اي.في المسبب للايدز والسل وأشكالهما المقاومة للعقاقير. ونحن لا زال نواجه عواقب هذه السياسات اليوم." ومن ناحية أخرى قال ستوكلر ان تأثير الكساد الكبير على معدل الوفاة في سن صغيرة وجراء الامراض المزمنة في الولاياتالمتحدة في الثلاثينيات كان ضعيفا لاسباب من بينها انه تزامن مع ميلاد نظام الرعاية الصحية الامريكي. ويقول مارتن ماكي من المرصد الاوروبي للانظمة والسياسات الصحية التابع لمنظمة الصحة العالمية والذي شارك في دراسة دورية بريتيش ميديكال جورنال ان التأثير الكامل لاجراءات التقشف على الوفاة والامراض ربما لا يظهر لبعض الوقت. فقد يكون هناك تأخر لعشرات السنين بين اجراءات التقشف الحكومية وعواقبها مثل الوفاة جراء السمنة وامراض القلب الناجمة عن الانظمة الغذائية السيئة في أسر اجبرتها البطالة ونقص الرعاية الاجتماعية على شراء اطعمة رخيصة ورديئة النوعية على سبيل المثال. وقال ماكي "يمكن للبحث العلمي أن يظهر فحسب الاثار قصيرة الامد. لكن كل شيء نعرفه يخبرنا بأن من المرجح بدرجة كبيرة أنه سيكون لذلك تأثيرات كبيرة على الامد الطويل." ويرى ابلباي أن الفترة الطويلة بين تطبيق اجراءات التقشف وظهور اثارها قد تسمح للساسة بالتترس وراء حقيقة أن الاجراءات المطبقة الان لن تؤثر قبل عشرة أعوام أو عشرين أو ثلاثين عاما. وقال "نتحدث عن الحياة بشكل احصائي وبطريقة أفترض أنها تجعل من السهل تحمل الامر .. وبالطبع سيكون هناك شخص اخر في السلطة وقتها