صحوت فجراً مذعوراً على كابوس فظيع مزق ليلتي وجعلني أستيقظ لألتفت حولي ثم أرقد لأصحو بعد ثانية صارخاً مرة أخري ! لم يكن كابوساً مرعباً .. بل الأحرى أن تعتبره ليس كابوساً على الإطلاق .. فلم أري في منامي سوي مصابيح مضيئة ؛ ككشافات السيارات ؛ تدنو مني ثم تندفع نحوي بسرعة البرق .. الباقي لا أعرفه لأنني كنت أستيقظ فزعاً في كل مرة ! عند آذان الفجر كنت قد يئست من ليلتي تماماً .. وأيقنت أنه لا سبيل للاستغراق في النوم بقية الوقت القصير الذي يفصلني الآن عن ميعاد عملي .. أزحت الأغطية وتسللت من الفراش بهدوء محاولاً عدم إزعاج زوجتي المسكينة التي لم تنم إلا منذ ساعتين فقط .. ف " أشرف " يهوى السهر حتى الساعات الأولي من الصباح ؛ " أشرف " وليدي الصغير وأول فرحة لي في هذا العالم ؛ وبصفتها أمه يتحتم عليها أن تظل ساهرة بجواره ولا تستطيع أن تغفي إلا بعد أن يتعطف سيادته ويأذن لها ! تسحَّبتُ على أطراف أصابعي والمؤذن يرجع الآذان ترجيعاً جميلاً مردداً " الصلاة خير من النوم " .. وحقاً الصلاة خير من النوم خاصة إذا كان نوماً متقلباً مليئاً بالأحلام المزعجة والكوابيس ! اتجهت نحو الحمام وبدأت أتوضأ استعدادا لأداء صلاة الفجر .. فتحت الصنبور فتدفق الماء على راحتي يدي .. فجأة داهمني إحساس غريب للغاية .. شعرت كما لو كنت لن أري هذا الصنبور مرة أخري ولن أتوضأ من مائه ثانية أبداً ! فزعت لهذا الخاطر الغريب وتجمدت مكاني للحظة عاجزاً عن استكمال وضوئي رغم أن الماء يندفع من الصنبور بقوة فوق راحتي .. وبصعوبة تمالكت نفسي .. استعذت بالله من الشيطان الرجيم وأكملت الوضوء ببطء .. ثم توجهت إلى غرفة الجلوس وفردت المصلاة الصغيرة الخضراء ؛ هدية عمتي من مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم ؛ وأديت صلاة لم أؤدها من قبل .. صلاة طويلة جميلة مفعمة بالأحاسيس التي ترفعك فوق كرة " آدم " البغيضة كلها وتعلقك في خيوط السماوات لتتدلي تتفرج على الأرض في سخرية ولا مبالاة .. تباً لمن يضيع صلاة الفجر بعد ذلك ! صليت ثم ذهبت إلى الشرفة وفتحتها ووقفت فيها .. واستغرقني التأمل في ضوء الفجر الشاحب والتفكير في الخاطر الغريب الذي داهمني وأنا أتوضأ ! *********** استيقظت زوجتي بعد شروق الشمس بقليل .. كانت عيناها منتفختين من أثر السهر الطويل والتعب .. ولكنها كانت كما أعرفها طوال عمري .. جميلة هادئة مبتسمة رزينة كأم ما زالت تستمتع بالأشهر الأولي من الأمومة .. ألقت على تحية الصباح بصوت مرح مستبشر ثم رأيتها تتوجه نحو المطبخ .. استوقفتها وسألتها عن وجهتها فقالت أنها ذاهبة إلى المطبخ لتعد لي طعام الإفطار .. ولكنني وجدت نفسي أسألها عن الصلاة .. صلاة الصبح هل صلتها أم لا ! لم تكن زوجتي تصلي .. أو على الأصح لم تكن ممن يواظبون على الصلاة .. تصلي يوماً وعشرة لا كما يقولون .. ولكنني لم أكن ألح عليها في هذا الأمر .. كنت أعتبره أمراً يخصها وحدها ولها أن تصلي إن شاءت أو لا تصلي إن أحبت .. ولكنني وجدت نفسي هذا الصباح أطلب منها بإلحاح غريب أن تصلي .. بل تعدي الإلحاح حتى وصل إلى حدود الغضب ! ولم تشأ زوجتي أن تغضبني .. فذهبت إلى الحمام وتوضأت .. وتركتها تذهب إلى غرفة الجلوس لتؤدي الصلاة ولكن ليس قبل أن أجعلها تعدني أن تصلي دائماً وألا تنقطع عن الصلاة ثانية أبداً ! *********** تناولت إفطاري بسرعة وبدون شهية .. ثم دخلت لأرتدي ملابسي استعدادا للذهاب إلى عملي .. ارتديت البذلة والحذاء ثم وقفت أمام المرآة لأربط رباط العنق ولأتم هندامي .. فجأة وجدت نفسي أتوق لحمام سريع .. صحيح أنني قد توضأت صباحاً ولكن هذا لا يكفي .. أريد أن أستحم ، أريد أن أغسل كل جسمي بالماء .. أريد أن أتطهر ! وبالفعل خرجت من غرفتي وانطلقت نحو الحمام بسرعة .. اندهشت زوجتي عندما سمعت صوت الدش من الخارج .. سألتني من وراء الباب المغلق : " هل ستستحم الآن يا أبا أشرف ؟! " كانت تدعوني أبو أشرف حتى من قبل أن يولد " أشرف " .. وعندما أجبتها بنعم قالت لي : " ستتأخر على عملك " فلم أرد عليها ويبدو أنها استسلمت فلم تعلق ثانية .. وقفت في الحمام أمام المرآة متحيراً .. لم أعرف كيف أستحم بالضبط ! بغتة تذكرت مشهداً حزيناً مر على منذ شهور قليلة .. مشهد تغسيل عمي العزيز الراحل الذي رباني .. كنت أقف عند رأسه وهم يقومون بغسله وتكفينه .. وبدون إرادة وجدتني أقوم بنفس الخطوات مع نفسي .. عصرت بطني برفق وأخذت في صب الماء بكثرة .. ثم تنجيت ثم توضأت جيداً ، ونظفت فمي وأنفي .. ثم غسلت شقي الأيمن ثم الأيسر ثلاث مرات لكل واحد .. وتذكرت الكافور وكنت متأكد أنه ليس لدينا منه في البيت شيء .. فاستعضت عنه بمقدار وافر من المسك سكبته على جسدي بعد أن جففته .. وارتديت ملابسي وقد شعرت أخيراً بالراحة وأحسست أن بإمكاني الآن فقط الخروج إلى عملي !! *********** خرجت من بيتي بعد أن قبلت طفلي مراراً وضممته إلى أكثر من عشر دقائق متواصلة وسلمت على زوجتي بحرارة غريبة .. ضحكت في وجهها لأخفي عنها الحقيقة التي كنت أشعر بها تدب في عروقي وتزحف في دمائي كزحف الحية .. لن أراها مرة ثانية لا هي ولا أشرف ! لماذا لا أبقي في بيتي إذن ولا أخرج اليوم .. يا أخي وهل سأهرب من قضاء الله إذن ؟! *********** توجهت إلى موقف السيارات بحثاً عن سيارة تقلني إلى عملي في سوهاج .. تمنيت أن أجد سيارة شبه ممتلئة لئلا أضطر لانتظارها نصف ساعة أخري حتى تمتلئ .. بالفعل أكرمني الله بسيارة من سيارات سوهاج لم تكن تحتاج إلا إلى راكب واحد فقط لتنطلق .. وكنت أنا هذا الراكب ! *********** انطلقت السيارة مغادرة الموقف .. أنقبض قلبي عندما تخطت السيارة محل البطاريات والسوبر ماركت الموجودين في مقدمة الموقف .. وجدت نفسي لا إرادياً أستدير في مقعدي واتبعهما ببصري وهما يصغران ويصغران كلما تباعدت السيارة عنهما حتى صارا مجرد نقطة باهتة في الأفق .. ثم اختفيا مخلفين في نفسي إحساساً كئيباً ثقيلاً .. المحلات والدكاكين والبيوت والمساجد الصغيرة على الطريق والكنائس والبيوت بما عليها من صور للكعبة أو صلبان .. حتى الأشجار والحقول المزروعة وشرائط السكة الحديد وزوجتي .. وأشرف .. كلها كانت تغيب عن نظري وتنأي وتتباعد كلما أوغلت السيارة في طريقها ! *********** أفقت على صوت يردد في فزع : " يا ساتر يا رب .. يا ساتر يا رب ! " فزعت واعتدلت لأجد السائق يحاول جاهداً السيطرة على السيارة والانحراف بها نحو اليسار ليبتعد عن طريق سيارة نقل ضخمة محملة بالثلاجات كانت تتجه نحونا مباشرة .. بدا السائق عاجزاً عن إدارة المقود وركبنا الفزع وارتعشت أطرافنا .. ولكن رجل عجوز كان يجلس بجانب السائق مباشرة مد يديه وساعد السائق بقوة لا تعرف من أين أتي بها في مثل سنه .. وبالفعل نجحا في إدارة السيارة وانحرفا بها عن طريق السيارة الضخمة قبل أن تدهمنا بأقل من ثانية ! أبتلع الناس ريقهم ونظروا لبعضهم طويلاً .. ثم فجأة انطلقوا يضحكون ! *********** وصلنا مدينة سوهاج سالمين وغادرنا السيارة وتفرقنا كل منا إلى المصلحة التي جاء من أجلها .. وتوجهت أنا إلى سيارة تاكسي متوقفة بالقرب مني وطلبت منه توصيلي إلى التأمين الصحي الموجود عند مدرسة أسماء بنت أبي بكر .. ولكن السائق لم يعرفه .. فتركته وذهبت لسيارة تاكسي أخري بدا على سائقها أنه محنك بما يكفي ليعرف الشوارع الخلفية المؤدية لبيت " هامان " .. وبالفعل قبل السائق توصيلي وركبت معه .. وبمجرد أن ركبت بجواره وتحركت بنا السيارة حتى أنطلق يرغي ويحكي لي قصة حياته منذ يوم أن تعرف جده على جدته ! وصرفه الحكي عن الاهتمام بالطريق وظل يلتفت كل دقيقة لي ليري وقع حكاياته العجيبة علي .. والتفت لي مرة وثانية .. والثالثة كانت الأخيرة .. لأن سيارة ضخمة جاءت مسرعة نحونا ودهمتنا في ثانية ثم دفعت سيارتنا للأعلى فانطلقت كالصاروخ في الهواء ووثبت في الهواء أكثر من عشرة أمتار .. ثم هوت بسرعة مخيفة لترتطم بالأرض محدثة صوتاً مدوياً .. وتحطمت تماماً ! *********** لا أذكر سوي الأنوار الخاطفة تنقض على كالصاعقة .. أضواء عابثة تتلاعب بي وترفعني لأعلى ثم ترميني لأسفل لأرتطم بالأرض وأتفتت .. أنا حي .. ما زلت حياً .. ما أزال على قيد الحياة ! لابد أنها أضواء المستشفي .. نعم هناك مستشفيات كثيرة في سوهاج لابد أنهم حملوني أنا والسائق بعد الحادث إلى احدها. .أجل أجل هذا هو ما حدث بالفعل .. ولابد أن أفتح عيني ليعرف الأطباء أنني ما زلت حياً .. خوفي الأكبر أن يظنوني ميتاً ويحملوني إلى المشرحة .. من يدري ربما شرحوني حياً .. يجب أن يعرفوا أنني ما أزال على قيد الحياة .. يجب أن أخبرهم بذلك .. وزوجتي و " أشرف " سأعود إليهم .. يا رب دعني أعود إليهم ! فتحت عيني بصعوبة لأجد نفسي مغموراً بالأضواء الساطعة النازلة من أعلى .. حولي أطباء وممرضات ومناضد مليئة بالأدوات الجراحية .. غرفة عمليات ؟! نعم أنا حي .. حي يا عمي .. حي يا حبيبتي .. حي يا أشرف ! *********** أقترب مني طبيب وسيم صغير السن وهمس في أذني برقة : " لا تخف .. أصابتك ليست خطيرة .. ستنجو بإذن الله .. فقط أسترخ ! " ابتسمت له ومددت له يدي .. قبض عليها الطبيب ووضعها بجواري برفق .. إنه مخطئ .. ليس له أبتسم ولا له أمد يدي .. بل للمخلوق الجميل الذي تراءي لي من وراءه !