يعتبر علم اللاهوت المسيحي من أهم المنتجات الفكرية والعقلية البشرية التي كان لها دور رئيسي في محاولة التعمق في فهم أسرار الكتاب المقدس، بشقيه العهد القديم المتمثل في التوراة، والعهد الجديد المتمثل في الإنجيل. فالربط المسيحي المتزامن بين السّلطة الدينية المتمثلة في الكنسية وبين السّلطة المادية أو الأرضية الواقعية المتمثلة في الحكام أو الملوك، والاختلافات الجوهرية التي بدأت تطفو على السطح بين من يرون بأن للكنسية سلطة تقديرية لتدخل في شؤون الرعية ومحاسبتهم دينيا ودنيوياً، وبين من يرون من فلاسفة علم اللاهوت كهوبس، أو اسبينزوا، أو باربارا، أو يشار سيمون، وغيرهم، بأنه لا يمكن تفكيك هذه العلاقة وفهمها، و تبريرها لدى الجمهور المسيحي، إلاَّ بإعادة استقراء الكتاب المقدس، وخاصة العهد القديم، لمحاولة الغوص في أعماقه، و محاولة إيجاد العلاقة التي نظمت بواسطتها التوراة، العلاقة بين المواطنين اليهود، وبين غيرهم من جهة، وبين اليهود كرعايا وبين حاكمهم من جهة أخرى، وذلك في إطار ما يسمى بالسكولاسيايكا( علم اللاهوت المسيحي) معتمدين على فهم الفلسفة الإلهية، بناء على اليتوسيبيا( عبادة الله)، باعتبار أن الحاخامات في الدين اليهودي الذي هو بالنسبة للكثيرين نقطة ارتكاز رئيسية لتفسير الدين المسيحي. لأن هناك الكثير من نقاط التلاقي والتشابك الزمني والموضعي بينهما، هم من يحق لهم دون سواهم تفسير نصوص التوراة وفق فهمهم لها، واختلاف هذا الفهم باختلاف المدارس الفكرية والدينية التي ينتمي إليها هؤلاء، أو يشفيا كما يطلق عليها بالغة العبرية، وحتى الهالاخاه ( الشريعة اليهودية)، والتي تحتل حيزاً واحداً في الفكر الديني اليهودي المنبثق من التوراة، نجد لها امتدادات في المسيحية، سواء من حيث الاعتماد على كرونولوجيا الأحداث القصصية التاريخية، أو من حيث استنباط الأحكام وتفاصيلها، أو الاعتماد عليها في السِّياقات الدلالية لشرح بعض الحكم والأمثال التي جاءت على لسان تلاميذ المسيح عليهم السلام كيوحنا المعمداني، أو بولس الرسول..الخ. فكل الأناجيل بنسخها الأربعة المعتمدة في الديانة المسيحية، سواء إنجيل متى، أو ومرقص، أو برنابا أو لوقا وغيرهم، يعتمدون على التوراة اعتماداً شبه مطلق في أخذ الأخبار والقصص، و المواعظ والحكم، حتىَّ وإن كان الكثير مما جاء فيها بحسب أقوال فلاسفة عصر النهضة الدينية وكتابها في أوروبا، من أمثال بيتر فرانسوا مورو، يصب في إطار إعادة قراءة تحليلية لنصوص التوراة، و تنقيتها، ووضع قواعد وأسس لها تتماشى من التطورات الثقافية والسِّياسية والاقتصادية التي كانت تعرفها العديد من دول المركز في الدين المسيحي، كفرنسا، وانجلترا، وألمانيا، على وجه التحديد، بينما بقيت روما مقر الكاثوليكية، منغلقة على نفسها حتى النصف الثاني من القرن المنصرم، ونهاية الحرب العالمية الثانية. فالتجديد الذي حاول من خلاله فلاسفة عصور النهضة، اعتماداً على مصادر تاريخية وفلسفية إغريقية بالأساس، أن يدخلوه إلى الدين المسيحي بالاستعانة بأدوات الفلسفة و نظرياتها والتي جاء بها أساطين الفكر الفلسفي والتاريخي الإغريقي، كسترابون، و بوزايتاس، وهيرودوتس، ونوسيديدس، بالإضافة إلى أرسطو و أفلاطون، اللذان يعتبران من دعائم الفكر الإغريقي اليوناني بالأساس، اصطدمت بمعارضة شديدة من المدرسة الكلاسيكية التقليدية المسيحية، والتي كانت تحرِّم الاشتغال بالفلسفة، ورأت بأن تفسير النصوص الدينية محصور بين الأساقفة والكهنة فقط، ولا يجور لغيرهم مناقشه قضايا المسيحية أو نصوصها، بما فيها أسفار التوراة الخمسة، أو أسفار موسى عليه السَّلام الخمسة، وهي سفر التكوين، أو الخلق، وسفر الخروج، وسفر اللاويين أو الأحبار، وسفر العدد، وسفر إعادة الناموس، أو التثنية. فالتوراة التي يراها علماء وفلاسفة اللاهوت، عبارة عن نصوص دينية مقدسة لا يجوز الطعن في مصادرها، بالرغم من أن كتَّابها من البشر، وذلك بخلاف أتباع الديانة الإسلامية التي يرونها قد تعرضت إلى الكثير من التزييف والتحريف، و حجتهم في ذلك طبعاً نصوص وآيات القران الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، ولكن الاختلاف الجوهري الكامن بين علماء اللاهوت المسيحية وفلاسفته، هو أن الفلاسفة يرون التوراة عبارة عن مصادر ونصوص دينية جامدة، لا روح ولا حياة فيها، ولا يمكن فهمها بمعزل عن الحياة الواقعية، ويجب إعادة استخلاص المفاهيم والقيم الأساسية منها، وتطويعها في خدمة السلطة الزمنية، لبناء مجتمعات حديثة متطورة ليبرالية بالأساس، فهم على عكس الفلاسفة اليساريين لا يدعون إلى إلغائها، أو عدم الاعتراف بها، بل يدعون إلى أن تصبح أداة دينية تخدم التحديث الديني الذي سعى إليه هؤلاء، باعتبار أن أوروبا عاشت طوال القرون الوسطى حروباً دامية بسبب تضارب المصالح الدينية بين مختلف أقطاب الكنسية، وبين العلماء والفلاسفة الذين حاولوا تفسير الظواهر الطبيعية والكونية بعيداً عن فهم الكتاب المقدس ورجال الدين المسيحي. وحتى ولو كانت التوراة تحمل الكثير من النصوص التحريضية المحتقرة للغير حتىَّ للمسيحيين، وتمجِّد اليهود وتجعل منهم شعب الله المختار، وهي الجزئية التي يتفق عليها الكثير من المسيحيين، ولكن لا تزال تعتبر من أحجار الزاوية في الفكر الفلسفي اللاهوتي المسيحي، فحتى وإن كانت هناك اختلافات عدَّة حول كنهها وجوهرها، والغرض من جود الكثير من نصوصها المبهمة في الكتاب القدس، ولكنها تبقى بالتأكيد أحد المفاتيح الرئيسية التي استعملها فلاسفة عصر النهضة لتنقية الدين المسيحي من الشوائب، وجعله طيعاً في خدمة العلم، واستطاعوا بواسطة ذلك تقوية السلطة الواقعية السِّياسية، وإضعاف السّلطة الكنسية إلى حدها الأقصى بالتالي. عميرة أيسر-كاتب جزائري