استيقظت .. تحركت بصعوبة داخل العشة الصغيرة الأركان .. ارتدت ملابسها المهلهلة .. جمعت بعض الآيات .. الأدعية .. أيقظت الأطفال .. خرجت . عبرت كوبري أبو سرحه .. هذا الجسد الممتد بين تلك العشش والعمارات الشاهقة النظيفة بكل ما يمر من تحته من قاذورات المجاري . الهموش . البعوض . عبرت الرصيف الشاسع الاتساع أمام قسم المنتزه الأبيض اللون . شريط القطار .. إختفت داخل أول عربة ترام .. وضعت فوق الأرجل . الأذرع . بعض الآيات . الأدعية . الحصن الحصين .. تململ بعض الركاب .. إبتسم البعض وهو يرمقها بعينيه الفاجرتين .. صدر نافر يختفي من خلف عفونة ملابسها البالية .. يقف الترام . تنتقل من عربة إلى أخرى دون ملل أو تعب .. تبيع مرة وتعود إليها آياتها مرات .. عندما ينسدل الليل الكئيب . تخف حركة الركاب .. تهبط محطة الرمل في رحلتها اليومية . تمر بشارع صفيه زغلول .. تقف أمام السينمات .. ترى صور الممثلين . الممثلات . تغمض عينيها في خجل .. تستمر في طريقها .. تمر أمام محلات الملابس الأنيقة.. في الواجهات الزجاجية ‘ تنعكس ملابسها .. تعبر الرصيف .. وقفت إلى جواره مرة ثانية من خلف الزجاج البني الفاتح .. إزدحم المكان بالرواد . سطعت الأضواء الباهرة , تحركت الأجساد على نغمات الموسيقى الصاخبة إلتحمت عندما هدأت .. تحرك ذوي الببيونات السوداء .. تعددت القوائم , مر الجرسونات يحملون أشهى المأكولات .. فرنسية .. إنجليزية .. عيونها المتطفلة الجائعة تحجرت أمام أحدى الموائد المزدحمة .. حفل عيد الميلاد . المائدة مبهرة الشكل .ظلت تراقبهم , وقفت السيدة .. نهديها يطلان من الفتحة الشاسعة بالصدر . نفخت . أطفأت الشموع . تعالى تصفيق الأكتاف العارية المحيطة بها .. وقف الرجل البدين الجالس إلى جوارها بالكرافت الحمراء . أمسك يدها وزينها بأسورة تتلألأ . إلتهم الحاضرون كل ما فوق المائدة من طعام .. إنتفخت ملابسهم , إستطاع البعض مواصلة الرقص .. جلس البدين بلا حركة .. زاد الطعام من حجم إستدارة كرشه .. تكور.. بلعت ريقها مرات عديدة .. وضعت يدها فوق بطنها الخاوية منذ الصباح .. غافل الرجل النوم .. تسللت يد الشاب إلى الصدر النافر .. استيقظ البدين فجأة صارخاً . وضع يده فوق الكرة المستديرة .. البالون انتفخ بشده , تجمع كل من بالصالة .. أتى أحد الخدم بالطبيب , وضع يده فوق مكان الآم .. همس للجرسون , إحضر بعض الماء . فوار سريع الذوبان . تلاشت الآلم , طلب الرجل المزيد من الطعام .. إنصرفت .. ركبت الترام .. لم تبع شئٍ , دست المكسب بداخل صدرها . ********************** أمام القسم الأبيض .. كان يقف رجل بعربة خشبية قديمة لم تراها من قبل .. عندما أقتربت علقت بأنفها رائحه الفطير .. إزدحم المارة .. أحصت ما تملك من نقود .. خمسون قرشاً حصيلة بيع الآيات الصغيرة .. سألت البائع غريب الشكل والهيئة بطاقيته السوداء المستديرة عن الثمن ؟ قال لها .. عشرة قروش للفطيرة الواحدة .. تهللت أساريرها .. هل يعقل هذا ؟!! إنصرف الجميع عنه إلا هي .. الزوج الراقد فوق المقعد منذ ثلاث سنوات , لم يذق طعم الفطير .. ذات يوم كهذا حمل إليهم كيس مملؤة بالبلح بعد أن عمل طوال اليوم بثلاث جنيهات .. عبر الكوبري أمام العشة .. لم ينتبه .. صدمتة سيارة مسرعة .. طار البلح في الهواء , إجتمع الناس .. جمعوا البلح . ظل هو قعيد الكرسي .. بنظرة حزن تتعمق فوق وجنتيه يوماً بعد يوم . وأطفالها الثلاثة ذهبوا جميعاً للعمل لدي صاحب العمل السا بق لزوجها .. سيفرحون كثيرا عندما يرون تلك الوجبة الساخنة من الفطير .. نظرت إلى البائع بود . اخي ضع المزيد من السكر .. الأولاد يحبونه هكذا إتفضلي من لدينا أغلى منك .. أبيض ناصع بلون الفل . تحمل اللفائف .. يرقص قلبها فرحاً .. تتخيل البسمة فوق وجوههم .. وفوق شفاه زوجها من أجل الأطفال .. تتذكرهم .. يرتسم الحزن , تحلم بهم يرتدون زي المدرسة .. الكبير تراه يحمل فوق أكتافه نجوماً لامعة .. ضابط شرطه .. كي ينتقم لها من هذا الشرطي الذي أراد أن يرسلها للسجن لأنها دافعت عن نفسها ضد الوغد الذي حاول أن يلمس مؤخرتها .. والأصغر .دكتور بصوت مرتفع . ليه لاء . . . يعالج اطفال العزبة من امراض برد الصفيح الذي عشش بصداه في إجسادهم البنت تصبح مهندسة . يأتي صوت الأبن مهرولاً .. حمدالله على السلامه يا أمي تحتضنه .. تعطيه اللفائف .. يسألها .. تخبره .. يطير بها إلى داخل العشة .. يضعونها فوق احدي الكراتين .. يتناولها الأب .. يعطي كل منهم واحدة , يلتهمها الصغار .. يحاول إعطائهم المزيد .. ترفض قائله . .. تعدمني ان ما أكلتها كلها .. ينصرف الصغار للعب .. تستدعيهم في عصبية ممزوجة بالآلم .. يحضرون . تأمرهم بالأستعداد للنوم .. تشعر بدوار شديد .. يتقيأ الصغار بشدة .. يرتمي الأب من فوق الكرسي على الأرض .. لا تستطيع الصراخ .. تتماسك .. تصرخ للمرة الأخيرة .. تسقط . تمر الساعات .. يعلو الصراخ .. صوت نفير الأسعاف يزيد مساحة الحزن داخل عشش الجيران. ............................................................. بداخل حيز صغير في إحدى الجرائد اليومية .. خبر يقول .. وفاة أسرة من خمسة أفراد .. تناولوا وجبة فطير مسمومة .. عدم إستطاعة الشرطه القبض على البائع .. البا ئع إستطاع الهرب إلى داخل البلاد . ################################# #تمت #رضا_عفيفي_السيد #الاسكندرية 1999