حوار: وليد فاروق محمد – محمد شعبان تصوير: محمود شعبان والتاريخ المصرى والعربى يحتاج لإعادة تصحيح "خلطة الكشرى" تكشف تركيبة الشخصية المصرية فهى ترجمة لهويتنا كمصريين القصة الحقيقية لغادة رشيد أشبه بفيلم الزوجة الثانية .. طلقها أغا وتزوجها مينو أنا أول من أجرى حوارا صحفيا مع نجيب محفوظ بعد حصوله على نوبل سألت لويس عوض عن صعود الحركات الإسلامية فقال لي: " استنى حتى تمشي بنت الشاطئ " الذوق الرفيع غائب دائما عن الفن والإبداع والسلوك .. والانحطاط طال حتى طريقة المعاكسات فى الشارع الأمريكان أبدعوا النسخة الأقرب لشخصية صلاح الدين الحقيقية فى "مملكة الجنة" السير الشعبية صيغة للتحايل على السلطة.. لهذا أعجب المصريون بأدهم الشرقاوى يهوى الملاحة فى بحار التاريخ.. ولا يتوقف عن البحث حول النقاط الأكثر إثارة فى الماضى، ويعشق التنقيب فى الذكريات ليعيد كتابة التاريخ بنفسه، حيث جعل من تاريخ عائلته بداية لقراءة التاريخ المصرى من جديد.. ولا يتوقف عن التأمل باحثا عن سر التركيبة التى تشكل الهوية المصرية، لهذا يطالب بإتاحة شجرة العائلة لكل مواطن، كلامنا عن الكاتب الصحفى ماهر حسن الذى اشتهر بزاويته الثابتة "زى النهارده" بصحيفة المصرى اليوم، وتجربته فى الصحافة كانت مليئة بالمفارقات والحوارات مع نجوم الأدب والفن والثقافة، أما حكايته مع التاريخ فكانت- ولا تزال- أكثر إثارة حيث يطالب بإعادة قراءة الماضى بعين جديدة..
زاوية "زي النهارده" هي كبسولة معرفية مكتوبة بشكل سردي بسيط يناسب القارئ العادي .. كيف جاءت فكرتها ؟ يعود الفضل في وجود هذه الزاوية وفكرتها واسمها وميلادها وتأسيسها لمؤسس المصري اليوم المهندس صلاح دياب والكاتب الصحفي الكبير صلاح منتصر وكلاهما تفضلا بشرح الفكرة لي في زاوية تعني "حدث في مثل هذا اليوم" واختارا لها عنوان "زي النهارده" كتعبير شعبي دارج ومتداول كأحد مفاتيح الجذب الأولي لقراءة الزاوية، وقال: إنه سيتم اختيار حدث واحد علي أن تقال كل أو معظم التفاصيل عن هذا الحدث ، وفيما كنت مهموما بالتفكير في شكل ولغة كتابة هذه الزاوية، بادرني الزميل مجدي الجلاد- رئيس التحرير آنذاك- وقال: إن الأستاذ صلاح منتصر سيكتبها أولا لأيام ، ثم عاد كل من المهندس صلاح دياب والأستاذ صلاح منتصر ورشحاني لأكتب هذه الزاوية، حيث كنت قد أسست لقسم وصفحة التراث في المصري اليوم، وهي معنية بالتاريخ والتوثيق، ولقد تغيرت مساحتها ومكانها أكثر من مرة مع كل رئيس تحرير جديد يأتى للصحيفة، وأسعي حاليا لإصدارها في موسوعة، وفي الحقيقة لم يقتصر نشاطي في المصري اليوم علي التراث والثقافة وإنما كنت أجري الحوارات، ولقد حصلت علي جائزة التفوق مرتين في فرع الحوار، كما أعددت الكثير من الملفات لكن تبقي تجربتي التراث والثقافة في المصري اليوم استثنائيتين بالنسبة لي، لأسباب سأذكرها لاحقا، ولكن دعني أقول لك: إنني كتبت في التراث في مجلة العربي الكويتية وجريدة الشرق الأوسط والحياة اللندنية، ولكن من التجارب المتميزة في مجال الصفحات المتخصصة وبالأخص في التراث، لا تفوتني الإشارة إلي أنني شاركت الدكتورعماد أبو غازي في صفحة تراث أسبوعية في أول إصدارات جريدة الدستور برئاسة الزميل إبراهيم عيسي، والتي صادرها مبارك بعد العدد 116 تقريبا، وكان الدكتورعماد قد اختار لاسم الصفحة "مروج الذهب" وكانت صفحة متميزة للغاية وكان الكاتب الكبير صلاح عيسي من كتابها، وكان يشاركني التحريرفيها الزميل عبد الرازق عيسي، وأنجزنا صفحات متميزة جدا.
لماذا تبدو مهموما بفكرة البحث فى أرشيف تاريخ عائلتك؟ كنت أدرس بالصف الأول الثانوى، وكان مدرس التاريخ يدعى عبد الحميد دياب، وكانت طريقته فى التدريس سببا فى زيادة عشقى للتاريخ، أيضا عشقى للحكايات القديمة.. فقد عاصرت حواديت جدتى، كما كان جدى يعمل فى أسوان وكانت له حكايات هو الآخر، لكن المسألة اتسعت معى لأكبر من ذلك، فقد كنت مغرما بشخصيات تاريخية عبقرية فكنت أتساءل: كيف كانوا يعيشون؟ ومن هنا بدأ التاريخ يستدرجنى، ودخلت فى موضوع العائلة وتاريخها وأصولها، وهذا أمر طبيعى خاصة لدى الأجيال الجديدة التى تتعامل مع هذه الذكريات الأسرية بشيء من عدم الاهتمام، وأذكر أن هناك حكايات كثيرة فى تاريخ عائلتى ذات قيمة، منها مثلا أن البكباشى يوسف السباعى كان يحضر إلى منزل جدى القاضى محمد حسن الذى كان يعيش فى 5 أ شارع تورسينا بحى الظاهر، وكان يأتي بالبدلة الميرى ليلتقى عمى الجراح حسن محمد حسن الذي كان طالبا بكلية الطب؛ لأنه كان يرسم رسومات قصصه ورواياته، وعمى كان موهوبا جدا، فكان جدى يخرج على طريقة حسين صدقى فى الأفلام القديمة ويقول ليوسف السباعى: " أرجوك يا سيادة البكباشى ابعد عن ابنى حتى يكمل دراسته لأنك ستفسد مستقبله" ، ولم يستجب يوسف السباعى لنداءات جدى، وكان يرسل عسكرى مراسلة بالنصوص المكتوبة ويسلمها له من شباك البيت ثم يعود العسكرى مرة أخرى بعد عدة أيام لاستلام الرسوم، وكانت روزاليوسف تقول لإحسان عبد القدوس: إن صديقك حسن يرسم حلو جدا، فكان إحسان يقول لها: إنه لا يزال طالبا فى كلية الطب ويحتاج فلوس لدراسته، فتقول له، "لا يا إحسان لا تعطه فلوس.. اشترى له دبوس كرافات، أقلام، ألوان، قماش، ورق لكن لا تعطه فلوس"، هذا الحكى كان من داخل العائلة.. وما أجمل هذه الذكريات!
معظم الناس يقعون تحت تأثير "النوستالجيا" عندما لا يجدون أشياء قيمة يفتخرون بها.. فى تقديرك كيف يبدو الواقع متأزما؟ الذوق الرفيع غائب دائما عن كل شيء فى الفن والإبداع والسلوك، فى الغناء، وأفلام السينما فى ظل هوجة أفلام "اللحمة"، ولا تحدثنى عن مؤسسة السينما فى الماضى التى كان يرأسها نجيب محفوظ ، وكانت تخرج أفضل الأفلام، مع الأسف كل زمن فيه القبيح لكن الجيد أصبح استثناء فى الزمن الحالى، نجيب محفوظ مثلا عندما كتب عن سعيد مهران فى اللص والكلاب، كان مصدر القصة صفحة الحوادث وكان النموذج سلبيا، لأنه كان نموذجا ملفتا واستثنائيا، فى مجتمع كانت القيم الجميلة هى السائدة. أما الآن فالشيء الجيد هو الاستثناء، لكن عموماً الحنين للماضى ليس شيزوفرينيا وليس حالة فردية، لكن له علاقة بانحطاط الواقع فى الملابس والموضة وطريقة الكلام واللغة وخلافه، حتى المعاكسات فى الشارع كانت أشيك وأجمل، يعنى الانحراف السلوكى فشلنا فيه، زمان كان الشاب يقول مقطعا من أغنية، أو يعاكس بطريقة مهذبة، أما اليوم فالتحرش اللفظى والجسدى سيد الموقف، أيضا من دلائل ومظاهر الحنين للماضى أنك تجد شبابا كثيرين يضعون صورا على الفيس بوك لشاطئ الإسكندرية والكورنيش وهو نظيف جدا كأنك فى أوروبا .. وتعود هذه الصور للستينات والسبعينات.
كل مؤرخ كانت له الظروف الزمانية والمكانية، وربما المصالح والانتماءات التى تجعله يكتب التاريخ على "مزاجه"، فهل قررت أن تكتب أو تقرأ تاريخك الشخصى والعائلى على "مزاجك"؟ أنا تعاملت مع التاريخ ليس بوصفه مهنة المؤرخين، التحقق عندى بالفطرة، فمن يقرأ التاريخ حول العالم وبالأخص العالم العربى لابد أن يبحث ويفتش، فلو اعتمدت على مصدر واحد سوف تخرج بحقائق مبتورة، باختصار شديد التاريخ العربى كله غير نقي، أما أنا ومن واقع تجربتى فأرى أن التأريخ للوطن يبدأ من التأريخ للفرد.. وليس بالضرورة أن يكون هذا الفرد حاكما أو زعيما، فتاريخنا كله مبنى على أساس سير الكبار والحكام والقادة، مع أنه يمكن أن يبدأ هذا التاريخ من فرد من شخصية أشبه بشخصية جحا مثلا.. لكن قناعاتى أن تاريخ الأوطان يمكن أن يبدأ من تاريخ الشعوب أو من تاريخ كل فرد، ولو أن الأزهر أو الجهات المعنية سهلت على كل مواطن مصرى أن يحصل على شجرة العائلة لكل أسرة فسوف يكون من السهل إعادة كتابة التاريخ المصرى، ويكون من السهل معرفة كم طبقة حضارية تعاقبت على مصر، وكم حضارة تعاقبت، وما نوعية الآثار التى تركها كل عصر من المماليك والأيوبيين.. ستعرف سر الخلطة التى تشكل الشخصية المصرية، الخلطة "الكشرى" التى تحدد هويتنا فمن الممكن أن تجد الشخص خليطا فاطميا وحجازيا، أنا شخصيا حجازى على عثمانى ولن تجد "بيور إيجيبشان" أو مصرى نقى بشكل خالص.. وأذكر أن أسامة أنور عكاشة كان يشغل نفسه بدراسة المتناقضات فى الشخصية المصرية مثل المادة أمام القيمة وأعمال معنية بالهوية، مثل أرابيسك وزيزينيا والحراك الاجتماعى مثل ليالى الحلمية.
لكن الاكتفاء بالتاريخ الشخصى لن يعطينا معرفة تاريخية شاملة.. هذا بخلاف الانحياز والشخصنة وغياب الموضوعية.. ؟ تعالوا نحصر الشخصيات الهامة التى تعاقبت على مصر، وكان لديها رغبة لكتابة سيرتها الذاتية، لو أننا جمعنا كل هذه السير الذاتية وأعملنا الفرز وأعدنا قراءتها سنخرج بوجه حقيقى وآخر للتاريخ المصرى، فلا أحد يتخيل أكاديميا صارما بحجم شوقى ضيف- الأمين الأسبق لمجمع اللغة العربية- وهو يكتب مذكراته حول أشياء تخص حياته الخاصة، أو بنت الشاطئ وعلاقتها بأمين الخولى، وهي صاحبة الجرأة التى ظهرت فى كتابها "نساء من بيت النبوة"، وواحد مثل الدكتور رءوف عباس- أحد أبرز مؤرخى الحركة العمالية- الذى كتب فى مذكراته أنه اشتغل "كمسارى" فى السكة الحديد، من خلال السير الذاتية للشخصيات الفاعلة ستجد فى كل سيرة ذاتية ملمحا.. وحتى فى أعمال نجيب محفوظ، وقد شرفت بإجراء أول حوار صحفى معه فور حصوله على جائزة نوبل، وقلت له: أنت موجود فى كل أعمالك، وبخاصة الثلاثية وفى الشحاذ وميرامار.. أقصد أنه قد تكون هناك أيضا رواية اجتماعية تؤرخ بشكل صادم للمجتمع.
وماذا عن غياب الدقة وخلط الخيال بالواقع فى الكثير من الحكايات والقصص التاريخية؟ هناك نماذج كثيرة دالة على هذا الكلام.. عندما كتب على الجارم عن غادة رشيد، قال: إن زبيدة كانت تحب محمود الوطنى والعاطفى وأن قارئة الطالع قالت لها إنها ستصبح السيدة الأولى فى مصر وقد تزوجت مينو، وكانت لورا البريطانية تحب محمود، ومحمود لا يشعر بها ثم يرجع للورا ولكن لورا تموت.. وهكذا حكاية طويلة، إليك الآتى أن هناك وثيقة فى متحف رشيد القومى تقول: إن " تزوج عبدالله باشا مينو من السيدة الرشيدية الراشد زبيدة بنت محمد البواب التى طلقها عثمان أغا باشا وقضت عدتها"، إذن نحن أمام فيلم الزوجة الثانية! على أحمد باكثير عندما كتب "واإسلاماه"، كانت الرواية مختلفة عندما خرجت لبنى عبدالعزيز وقالت هذه الصرخة، مع أن الثابت تاريخيا أن قطز هو الذى صعد على التلة ولم يقل وا إسلاماه وإنما قال: "وا دين محمد" ، فقام الجنود وقاتلوا حتى انتصروا على المغول.. إذن حتى فى كتابة الرواية التاريخية لا توجد دقة. فهناك ثوابت تاريخية لكن الدراما والسينما تتجاوز هذه الثوابت، وهو نفس ما حدث مع فيلم صلاح الدين، وللأسف الأمريكان أبدعوا النسخة الأقرب لشخصية صلاح الدين الحقيقية فى "مملكة الجنة"، فهو عمل كمية مؤامرات لكى يصل للحكم، وغدر بأحد الوزراء وأغلق الأزهر عدة سنوات لمنع المذهب الشيعى.. إذن عندما أكتب التاريخ فى عمل إبداعى يجب أن أترك الثوابت التاريخية.
لو قلنا- مجازا- "تجديد الخطاب التاريخى".. هل يمكن ذلك؟ بل تجديد القراءة التاريخية، فالتاريخ يعيد نفسه لأنك لا تعيد فرزه ولا تعيد قراءته بعين معاصرة، وطريقة تدريس التاريخ فى المدارس سيئة جدا، وفى الجامعات أيضا، والتاريخ لا يُكتب بشكل جيد، وعلى سبيل المثال لابد من إعادة قراءة تجربة حكام مصر على مدى فترات سابقة لنرى متى أقاموا دولة قوية، تجربة محمد على الذى بدأ بناء مصر من الداخل وليس من الخارج، رأى أن مصر يجب أن تنهض من الداخل، فاهتم بالفلاح، وقال: "إياكم والفلاح فولى نعمتى اثنان السلطان فى الأستانة والفلاح فى مصر"، وكان يرسل بعثات وينفق عليها، هو استثمار طويل الأجل، عندما قام بتأسيس الدولة بادئا بتأسيس البشر، وكان أول من ينشئ مدرسة حربية فى أسوان بقيادة سليمان باشا الفرنساوى وكان من ضمن تلاميذها الفلاحون. فاختاروهم من الفلاحين لأن الأرض عرض، وهم أكثر من يضحون بأنفسهم من أجلها، وبدأ يينشئ مدارس ومصانع ومستشفيات، وجاء عباس الأول وأغلق الكثير من المدارس وقال: إن "قيادة شعب جاهل أسلس من قيادة شعب متعلم".. هذه تجربة يجب أن يعاد قراءتها فى ضوء الواقع.
الأسطورة الشعبية وكتابة التاريخ الشعبى صنعت أبطالا رموزا من السير على خلاف الواقع.. كيف يمكن تصحيح هذا التاريخ؟ السير الشعبية كانت صيغة للتحايل على السلطة فى وقتها من خلال التراث الشعبي، فنحن الشعب الذى اخترع النكت لأنه لا يستطيع المواجهة، هذا البطل الشعبى هو بديل لبطل حقيقى يفتقده الناس وشجاعة غائبة فى مواجهة الحاكم. أدهم الشرقاوى مثلا أنا رجعت لمصادر متعددة للوصول لأصل القصة، حتى أن من قتله كانوا ثلاثة من الشرطة وكانوا متخفين فى زى فلاحين، والحدوتة ليست دقيقة فى الأسطورة الشعبية، فأنا من عائلة " زبيدة " أى أننى من أقاربه، وهناك "زبيدة قبلية" و"زبيدة بحرية"، وكان يوجد فرع سيئ فى العائلة، كانوا يسرقون الناس ويقطعون الطرق، وكان أدهم من هذا الفرع، علما بأنه كان يعرف لغات جيد جدا، ولكنه كان هاربا من العدالة ويتخفى من الناس وقام بتكوين عصابة.
بعيدا عن التاريخ .. كيف بدأت تجربتك مع الصحافة؟ والدى كان يعمل مهندس كهرباء فاتجهت لنفس مجاله فى البداية، واشتغلت فترة فى الوزارة، وتركتها واشتغلت فى شركات كهرباء أجنبية فترات أخرى أيضا، وكنت فى نفس الوقت أكتب الشعر، وأنشر أشعارى، واشتغل صحافة في بعض الجرائد مثل الشرق الأوسط اللندنية ومجلة العربى الكويتى، ومن المواقف التى لا أنساها خلال تلك الفترة أنني كنت أجري حواراً مع نجيب محفوظ بالأهرام.. وبعدما انتهيت فكرت في اصطياد أحد الذين كانوا يجلسون معه في الغرفة، لويس عوض أو غالى شكرى، فتكلمت مع لويس عوض فى مجموعة أسئلة وكلما تأتى سيرة السادات يقول لى: "اقفل التسجيل مش عايز أتكلم" .. فسألته عن صعود الحركات الإسلامية؟ فطلب منى أن أنتظر حتى تمشى الكاتبة الإسلامية عائشة عبد الرحمن " بنت الشاطئ ".