ما أكثر العبارات التي قالها مؤرخ الاغريق : هيرودوت عن مصر .. غير أن عبارة واحدة هي التي التصقت بنا , حتي أصبحت طبعا وطبيعة مصرية . قال : ان مصر هبة النيل .. أي أن النيل هو الذي خلق الدلتا , والوادي الخصيب , وأنه بعد ذلك وسيلة المواصلات بين المدن المصرية .. وان الوادي الأخضر هو المهد الذي ولدت وتعيش فيه الحضارة المصرية . ولم يقل هيرودوت أصدق من ذلك .. فالنيل هو أبو مصر .. ارتضينا ذلك , وسعداء به .. ولكن هذه العبارة جعلتنا نحن المصريين ننتظر النيل أن يهبنا أرضا وحياة كل سنة .. ولذلك فحياتنا هي الانتظار الأبدي .. وليس غريبا أن يعبد أجدادنا الأرض والنيل والشمس , وهي جميعا عناصر حياتنا . وعندما جاء عمرو بن العاص الي مصر أدرك بفراسته البدوية هذا المعني .. ووصفه بشكل آخر فقال : إننا نبذر الحب , وننتظر الثمار من الرب .. أي كل واحد منا يلقي الحبة , وينتظر .. حتي الكاتب الذي يجمع الضرائب قد وصفناه بأنه الجالس القرفصاء .. فهو يجلس والناس يجيئون إليه .. وتحت الكاتب كانت المصطبة .. فأصبح من علامات الحياة المصرية : الانتظار علي شاطئ النيل فوق المصطبة .. ولذلك كان من أهم معالم الشخصية المصرية : الانتظار في مواعيد محددة .. والاستمرار .. فكل شيء يمشي دون تدخل من الانسان : الماء يجري والبذور تنمو والشمس تطلع سواء كان هناك فلاح أو لم يكن فكل شيء لا يعتمد علي الفلاح المصري .. إنما الفلاح هو الذي يعتمد علي كل شيء !! لقد وهبنا النيل هذه الحياة .. وهو يهب الحياة ونحن نتلقاها . وعندما أراد المصريون أن يهبوا النيل شيئا امتنانا له علي خيره العظيم , كانوا يلقون إليه بعروس جميلة في موسم الفيضان .. فالنيل رغم انه ابن عشرات الألوف من السنين , فإن فيضانه الطائش يؤكد أنه شاب وأنه سوف يبقي كذلك .. وعندما جاء المستعمرون إلي مصر راحوا يحرصون علي هذا المعني الذي نستريح إليه : إننا زراعيون وإننا نكره المغامرة . وعندما نحاول أن نغامر فإننا نترك القرية لنكون موظفين في الدولة .. فإذا أصبحنا موظفين جلسنا القرفصاء .. فنحن مرة أخري فلاحون ولكن بملابس مختلفة . ولقد ظللنا فلاحين .. ووجد لنا المستعمرون أعذارا معقولة لذلك .. فقالوا لنا في كتبنا المدرسية إن بلادنا محاطة بالبحر شرقا وشمالا , ومحاطة بالصحراء غربا , وبالشلالات جنوبا . فنحن رهائن الوادي الأخضر : هبة النيل ! وزاد عدد سكان مصر .. وقامت مدن علي الأرض الخضراء . وضاقت بنا الأرض وضاقت عنا أيضا . ولم نسأل أنفسنا : ألا نستطيع أن نساعد النيل أو نستغله علي ان يجعل الهبة السنوية أكبر؟ ! ألا نتعلم من النيل الذي أعطانا الكثير , فنضيف نحن أيضا إلي هذا الوادي مساحات أخري خضراء؟ ! واجهتنا مشكلتان : المشكلة الأولي : ظاهرة التصحير أي أن الصحاري تزحف علي الوادي الأخضر .. وهذه ظاهرة عالمية .. وإلي جانب ذلك فإننا في مصر لا نزحف علي الصحراء ولا نجعل الصحراء تزحف علينا . إنما نحن نبني بيوتا علي الأرض الزراعية .. وبذلك نحقق ظاهرة التصحير ولكن بصورة مختلفة . وأضفنا إلي ذلك ما تقتضيه المباني , فقمنا بتجريف الأرض الخصبة لنجعل منها طوبا نبني به البيوت علي الأرض التي جعلناها بورا أي خصمناها من الأرض المزروعة وأضفناها الي الأرض الصحراوية ! المشكلة الثانية : الهجرة الي المدينة . فكل أبناء الريف يتعلمون .. وأول قرار يتخذونه هو أن يديروا ظهورهم للأرض التي نموا علي ضفافها .. فكأنهم يتعلمون كل شيء إلا أن يستثمروا علمهم في القرية أو في الريف المصري . فما الذي يمكن عمله؟ كان من بين ما عملناه : السد العالي .. كان بناء السد العالي محاولة لادخار الماء لوقت الشدة .. فأبونا النيل رجل سفيه .. لا يكاد تفيض جيوبه بالخيرات حتي يروح يبددها في البحر .. ولذلك كان لابد أن نعلمه التدبير .. فركبنا التوربينات تعترض طريق الماء فيحاول أن يقتلعها فتدور بين أصابعه , ومن بين أصابعه تتولد الكهرباء لإدارة المصانع وإنارة القري .. وجاء السد العالي بعد أن أصبح خزان أسوان شيخا عاجزا عن الوفاء باحتياجات المجتمعات الشابة والصناعات النامية في مصر .. وكان من الممكن ان نبني سدا عاليا آخر .. وقد فكرنا في أن نأتي بالماء نستدرجه إلي منخفض القطارة , ومن انحدار الماء تتولد طاقات جديدة للإدارة والإنارة .. ويكون منخفض القطارة تكرارا للسد العالي . ولكن هناك شيئا مهما لم يتغير .. ولابد أن يتغير : النظرة المصرية .. فلا يزال المصري الفلاح ينتظر النيل حتي يأتي له بالماء والحياة عند قدميه .. ولا يذهب المصري الي أبعد من ذلك . ان البدوي الرحالة هو الذي قال : إذا لم يأت الجبل إلي محمد , فإن محمدا يجب أن يذهب إلي الجبل !! وهي عبارة لا يقولها فلاح .. إنما الفلاح يقول ما قاله اللورد كرومر عن المصريين : إن أغانيهم أكبر دليل علي أعماق أعماقهم .. فهم يقولون : يا مين يرجع لي حبيبي .. إنه لا يذهب إلي الحبيب , إنه ينتظر أحدا لعله يأتي .. وبعد نكسة سنة 1967 كان خطباء المساجد عندنا يقولون : اللهم ابعث إليهم بجنود من عندك ! أي أن الله هو الذي يحارب نيابة عنا ! ومن البديهيات أن نقول : عندنا الماء والماء والماء والتربة والشمس والعلم .. نعم والعلم .. إذن فجميع مشاكلنا محلولة .. وكل ما نطلبه هو أن نمسك ورقة وقلما ونحسبها : ما الذي نحتاج إليه لكي تكون عندنا حياة؟ نحتاج إلي الماء .. والله تعالي يقول وهو أصدق القائلين : وجعلنا من الماء كل شيء حي .. ونحتاج إلي الأرض وما أوسعها .. وعندنا نظريات علمية جديدة تقول : اعطني الماء وأنا أزرع لك الصحراء .. فليس من الضروري أن تكون الأرض سوداء لتصبح صالحة للزراعة , وعندنا الشمس أي الطاقة التي توفر كل التفاعلات الكيماوية للحياة , وعندنا الهواء .. لم يبق أمامنا إلا أن نستفيد من تجارب الشعوب الأخري وقد سبقتنا إلي زراعة الصحراء أمريكا وغيرها . إذن .. فإذا كان النيل قد وهبنا الأرض ألوف السنين , ففي استطاعتنا أن نهب النيل وديانا ومدنا وحياة جديدة , معتمدين علي النيل دائما , وعلي أنفسنا , وعلي الله .. وليس أنجح من النموذج الناجح .. ولذلك فلكي يقتنع الفلاحون وكلنا فلاحون فلابد أن نقدم لهم نماذج ناجحة لزراعة الأرض وتربية الطيور والأسماك والحيوانات .. ولابد من تغيير في الشخصية المصرية : فليس من الضروري أن نكون جميعا فلاحين علي المصاطب , أو كتبة يجلسون القرفصاء .. إنما من الممكن أن نكون متعلمين يركبون السيارات والجرارات .. وأن نبدأ حياة جديدة بعيدة عن النيل هناك في قلب الصحراء .. وهناك نجد النيل يلاحق أبناءه , وإن لم يدركهم النيل فإنه ينتظرهم بالخير في جوف الأرض , وليس عليهم إلا أن يدقوا له المواسير ليتدفق الماء بالحياة .. وإن أكبر رمز علمي حققته مصر في عصرها الحديث هو أن تبعث الماء إلي سيناء ,.. ليس فقط ربطا لسيناء بمصر , إنما بعث الحياة في أرض خلقها الله لامتحان الأنبياء أقصي وأقسي امتحان .. انني لا أنسي أن أحد مهندسي زراعة إسرائيل قد وقف ينظر إلي النيل من مكتبي فقال : أين تذهب كل هذه المياه؟ فقلت : طبعا إلي البحر .. كلها؟ ! نعم .. كلها .. وأنتم لا توقفونها لأي سبب؟ ! لا يوجد أي سبب .. آه .. أكبر غلطة ارتكبها النبي موسي أنه ترك مصر , وأنه عندما تركها لم يذهب إلي السعودية ! وأي إسرائيلي يري مصر يتلمس وجعا في نفسه أو في قلبه : لماذا؟ لأن قلة الماء في إسرائيل جعلتهم يستخدمونه كالقطرة يضعونه في عيون الأشجار والنباتات قطرة قطرة . أما نحن فنجعل الحقول حمامات للسباحة تغوص فيها البذور والأشجار .. فالفدان الذي يحتاج إلي خمسة آلاف دلو ماء نعطيه مائة ألف , بينما في إسرائيل وغيرها يستخدمون مائة دلو للفدان الواحد .. كما يجب أن تتغير علاقة المصري ببلده .. ويكفي أن نعود إلي حروب مصر مع إسرائيل , فالذين يدافعون عن الأرض هم الفقراء الذين لا يملكون شيئا من مصر , فكأن الذين لا يملكون يموتون من أجل الذين يملكون . .. أما الآن فمصر لأبنائها , يملكون ويدافعون عنها .. فإذا فعلوا ذلك فهم يدافعون عن الأرض وعن العرض . .. وقبل ذلك لم يكونوا يدافعون إلا عن العرض .. وتجربة الصالحية ليست إلا خطوة في مسيرة طويلة , يجب أن تكون متصلة وأن تكون نشيطة , وكذلك تجربة بناء مدن في سيناء , ليست إلا نواة لبناء مصر جديدة .. مصر الآسيوية .. فقد عشنا ألوف السنين في مصر الافريقية .. أما مصر الآسيوية فسوف تكون لها حسابات أخري ونوعيات أخري من المواطنين .. إن أشياء كثيرة جديدة تتولد في مصر في ظل السلام والتغيير فنحن نبني لكي نعيش , ولا نبني لكي نموت تحت الأنقاض .. ونحن نعطي الأرض للذين تعلموا لغتها , ونعطيها للذين يحاورونها ويصارعونها ثم يطوعونها بعد ذلك .. فقد طالت تجربة الذين ينتظرون دائما .. وإذا تحركوا جلسوا القرفصاء ثم أنهم راضون بعد ذلك ! اننا نغير أشياء كثيرة في وقت واحد .. وأهم ما يتغير عندنا وفينا : من هو المصري؟ ! انه الآن لا يريد أن يكون الذي يضع ساقا علي ساق , لتمر النعمة من تحت قدميه , فلا يراها إلا الخواجات والمستثمرون الأجانب ! إنه لم يعد ذلك الذي لا يريد أن نفطمه عن العلاقة الدائمة بمدينتي القاهرة والاسكندرية . .. فإذا لم يعش فيهما أحس بأنه غريب منبوذ .. إن مصر اتسعت , ويجب أن تتسع .. ولذلك يجب ألا نسخط علي أنفسنا , ونكف عن احتقار العلاقات الزوجية التي تؤدي إلي كثير من الأولاد .. فليس صحيحا أن مصر كثيرة السكان .. إنما الصحيح أن السكان موزعون توزيعا سيئا .. ولذلك فلابد أن نعيد توزيع السكان , في سيناءوالوادي الجديد وفي غيرهما من المدن التي يقام بناؤها .. فليس من المعقول أن نطلب من الشباب أن يكونوا علي خلق عظيم , ثم نمنعه من الزواج فإذا سمحنا له بالزواج رحنا نتهم هذا التسيب في علاقته الزوجية !! إن أهم ثروات مصر وخيراتها : هنا .. فوق الكتفين ! أي : أن أعظم مناجمنا هو الطاقة البشرية والابداعية . .. ولن نستطيع أن نغير أنفسنا إلا بأنفسنا .. والذي يحدث الآن ليس إلا اعادة النظر في المعطيات الزراعية والصحراوية والمائية .. ونحن إذ نعيد النظر .. نغيرالزوايا , وإذا تغيرت الزوايا الاقتصادية والاجتماعية فإن مصر كلها سوف تتغير .. ومن الخطأ أن نتعجل النتائج , فليس في يوم يمكن بناء مجتمع جديد .. ولا في سنة يمكن إقناع الآخرين بنجاح التجربة .. ولذلك يمكن أن نمضي , فالطريق مأمون والنجاح مضمون .. ونحن الذين اخترنا السلام والتغيير سوف نهب النيل شعبا جديدا ومصر جديدة !