لكل دولة أرضا وشعبا ميزة نسبية اذا عرفت وأحسن تفعيلها أصبحت السمة التي تميزها عن غيرها في اقليم أو قارة أو العالم, والميزات النسبية كثيرة ويمكن تقسيمها الي فئات طبيعية وبشرية وتنظيمية. وأولي الميزات الطبيعية هي المكان الذي تحتله من العالم, مثلا ايسلندا أو مدغشقر في أماكن أقل تفاعلا مكانيا ومناخا ومقومات من ايطاليا أو المكسيك, ومصر تمتلك مكانا يمسك بأطراف إفريقيا وآسيا وأوروبا دون أن يخل بكينونتها فهي ليست مجرد مفترق طرق عالمي لأنها تقوم علي قاعدة ذاتية قوية مؤسسة علي ميزة طبيعية أخري كونها بحق أرض النيل في أعلا هباته, ومن ثم أعطت لشعبها عبر تاريخ طويل مجالات راسخة في اقليم الشرق الأوسط فرعونيا ومسيحيا واسلاميا, وهي في ذلك واسطة العقد بين ابناء اللغة العربية في مشرقها ومغربها. اذا تركنا هذه الإشارة الي مكان مصر الجغرافي المعروف حضاريا وتاريخيا وسياسيا وفتشنا جوانب مصر عن ميزتها النسبية سوف نجد عدة ميزات مترتبة فوق بعضها هي التي جعلت من هذه البقعة الأرضية مصر الموحدة لستة آلاف سنة قل أن يكون لها نظير حتي بين دويلات مدن سومر( جنوب العراق الحالية), فقد كانت سومر معاصرة للبدايات الفرعونية لكن لم يكتب لها استمرارية مصر حين ابتلعتها بابل والجماعات الهندو أوروبية النازلة من جبال إيران. النيل هو علي رأس الميزات النسبية الطبيعية, فهو يجري بصفة عامة هادئا يلقي بحمولته من الطمي( الذهب الأسمر) مكونا خصوبة أسطورية لأرض الوادي والدلتا, فيضانه ليس مدمرا في أغلب حالاته من ناحية, ومن ناحية أخري يأتي الفيضان في الصيف يروي الأرض حين تكون في قمة الجفاف, وحين تنسحب المياه تستنبت الأرض حبوبا وثمارا تنمو شتاء في موسم الحرارة الدنيا, حيث يقل احتياج النبات للمياه, مثل هذا التأهيل الطبيعي هو سبب مقولة هيرودوت المأثورة, لكن دور الإنسان المصري هو الذي جعل النظام الطبيعي فاعلا ليس فقط بابتكار ري الحياض بل بإزالة المستنقعات تدريجيا وتحويل الجانب الأكبر منها الي أرض منتجة, وهو ما يزيل الالتباس بين مقولة هيرودوت وايجابية المصريين في قراءتهم التجريبية لمعطيات الطبيعة. وثمة استجابة مصرية أخري تمثلت في اختيار مواضع اقامة القري علي أرض مرتفعة قليلا(2 الي3 أمتار) فوق السهل تجنبا للفيضان, استمرار سكن هذه المواقع هو العامل الحاسم في التوزيع الجغرافي لقري مصر آلاف السنين حتي وقتنا الحاضر عدا العزب المستحدثة, لكن نمو العمران الريفي والحضري المعاصر هو هدر لميزة الأرض الخصيبة برغم التحذير المستمر وخرائط الزمام التي ترسم ببطء تفقد معه مصداقية التعبير عن الواقع وهو ما يدعو الي إعادة ترسيم الزمام العمراني وغض النظر عن المخالفات مع استدعاء النمو السكاني, عذرا لذلك التساهل أو المزيد من الاعلام حول اقامة القري في الظهير الصحراوي وهو ما لا ينطبق علي معظم محافظات الدلتا كثيفة السكان! لا يقف هدر التربة عند هذا الحد بل هناك مشكلات كثيرة بحوثها ملء الخزانات والأدراج حول تمليح التربة وتشبعها بكيماويات الأسمدة وأمراض التغذية والري التقليدي بالغمر وتسعير ولو رمزي لمياه الري, ومشروعات الاستصلاح باهظة الكلفة قليلة العائد إلي حدود لم تدركها دراسات الجدوي المتسرعة! لكن الأخطر أن كل مشروعات التنمية والاستصلاح تدور حول محورين:المحور الأول استزراع في صحاري عطشي تبني أساسا علي مياه النيل, وقليلها يستند إلي المياه الجوفية غير المؤكد معرفة رصيدها ولا عمر استخدامها. والمحور الثاني تساؤل منهجي: لماذا ترتبط التنمية بالزراعة وهي علي ما نعرف أكبر مستهلك للمياه(+70% من مياه مصر), بينما عائدها في الناتج المحلي العام يتراوح حول+15% فقط مقابل الصناعة التي تستهلك أقل من ربع مياه الزراعة ويتراوح أسهامها في الناتج المحلي العام حول+35% ؟ تستحوذ الزراعة علي نحو30% من القوة العاملة مقابل20% عمالة صناعية. وقد تكون كثرة العمالة الزراعية حجة علي ضرورة التنمية الزراعية لكنها حجة واهية لأن للأرض الجديدة مكونات لا تستدعي عمالة عالية كالزراعة التقليدية في الوادي والدلتا, فضلا عن وجود أشكال من الصناعات تحتاج عمالة عالية كورش الاصلاح وصناعة الخدمات والتشييد وتمديدات البنية التحتية اللازمة لأشكال التنمية البشرية. هناك جدليات كثيرة في كل الموضوعات ولكن لا جدال في أننا نستخدم ميزة النيل الأساسية بصورة مؤسفة في الزراعة التقليدية واستصلاح الصحاري ومشروعات أخري شرهة للمياه وإلي مدن السياحة علي البحار المصرية علي حساب رصيد مائي محدود ومستقبله غامض نتيجة استخدامات جديدة مشروعة لدول أعالي النيل ونتيجة ليست بعيدة( ربما70 سنة) لمتغيرات المناخ وقلة أمطار المنابع وشيخوخة السد العالي من بين سدود أخري. نحن نعيد بناء القناطر لتشغيلها في عدة وظائف كإنتاج الكهرباء إلي جانب الري والنقل علي فرضية استمرار الأحوال المائية للنيل كما هي الآن وهي فرضية يدخلها شكوك كثيرة. الخلاصة هل نفقد ميزة النيل بفعل تصرفات بشرية أو تحولات طبيعية أو هما معا؟ هل نتحول إلي ما يشبه تاريخ قديم يعود إلي أكثر من عشرة آلاف سنة حين كان النيل نهرا وليدا ضعيفا يتعثر سيره ويجري مواسم ويكاد يجف في أخري فيصبح طاردا للناس بدلا من جذبهم! وأين يذهب ملايين المصريين؟ هذه صورة كثيفة السواد قد تحدث بصورة مخففة إذا خففنا بشدة من تشتيت مياه النهر الخالد وبحثنا عن ميزة أخري في أرض مصر وبين شعبها ففي الجراب أشياء مميزة ربما نبحثها في مقال تال.