أعترف إن شهادتي مجروحة، ليس فقط لأنني أعرف "إلهام الجمال" صاحبة الفكرة منذ سنوات، ولكن لأنني منحازة للفكرة نفسها ببساطتها، التي لخصتها فيروز الصغيرة في فيلمها الأشهر "فيروز هانم" بقولها لحسين إبن السباك أنه "ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط". "إلهام الجمال" قررت وبالجهود الذاتية فقط ومن أقرب المقربين أن تفتح مساحة للمعرفة والثقافة في بيت أسرتها لأطفال قريتها "قطيفة مباشر" بالشرقية، وإليكم الحكاية من البداية: أصل الحكاية وفصلها عرفت إلهام الجمال منذ عقد أو ربما يزيد، عن طريق ندوات مجلة الشباب التي كنا ننظمها تحت عنوان "إفتح قلبك"، وذلك بحضور أحد أساتذة الطب النفسي أو الباحثين الاجتماعيين أو المفكرين لمناقشة إحدى مشكلات الشباب بمشاركة مجموعة من قراء المجلة. وفي إحدى المرات، طلبت قارئة اسمها "إلهام الجمال" مقابلتي لأمر هام بعد الندوة، ولم يكن هناك ما يمنع. وجاءت إلهام خصيصا من الشرقية لحضور الندوة، وكانت قد أنهت للتو دراستها بكلية الآثار، جامعة القاهرة، وكما قالت لي إنها "تحب الكتابة والصحافة". لا أذكر حول ماذا دار حديثنا بعد الندوة التي انتهت في وقت متأخر، ولكنني أذكر انطباعي عن كونها: فتاة طيبة لديها حلم مسجون مؤقتاً بحكم الاستقرار في قريتها وبعدها العاصمة، والله المستعان على الأحلام في الزمن الصعب. لاحقاً، تشجعت إلهام وتقدمت للتدريب بمجلة الشباب تحت رئاسة أستاذنا عبد الوهاب مطاوع، سار الحال قليلاً ثم تعثر بسبب الحل والترحال ما بين الشرقيةوالقاهرة. جربت حظها مع بعض الصحف والمجلات، وشاركت في كتابة فيلم وثائقي، وأصدرت مجموعة قصصية ،وكتبت سيناريو فيلم لم ير النور، وتعمل حالياً على رواية، ولكن الأحلام ترواغها وتبتعد عنها كلما اقتربت منها. تقول إلهام إنها تشعر أنها تحفر طريقها في الرمل، وكل صباح تبدأ ما أنهته بالأمس مع ابتسامة وبعض من صبر، وعندما تحبط تعود لقريتها لتستكين في حضن بيت ريفي طيب، وأم أملها أن ترحل ابنتها لا إلى القاهرة ولكن إلى بيت العريس المنتظر. ولكن سيدة الخان لم تضع يدها على خدها، فهي تكتب وتقرأ وتعمل أحيانا وتسافر وتأكل وتشرب وتصلي وتتواصل مع أصحابها عبر الموبايل والفيس بوك وتردد بينها وبين نفسها دون أن تسمعها أمها: "وحدي لكن ونسان وراضي بحالي كده". تقول إلهام: "بافكر من فترة طويلة اعمل حاجه لقريتى الصغيرة .. كنت طول الوقت باقول ان الدنيا ساعدتنى واديتنى بيت وعيله قدروا موهبتى واحترموا احلامى ومع شويه عناد منى ومعافرة واصرار قدرت اشق لنفسى طريق وقدرت اشوق الدنيا من زاويه اوسع واتفرج على الناس وافكر واحلم واشتغل واخلق لنفسى شخصيتى وافكارى اللى ممكن ناس تحبها وتحترمها وناس تانيه ترفضها .كل ده لانى قريت وسافرت وصادفت وصاحبت وحبيت وكرهت، عشت تجربتى انا عشان كده فكرت امد ايدى لاطفال لسه بتفتح عنيها ع الدنيا . وجئت ان جيلى اللى كنا بنحلم نبقى دكاتره ومهندسين وعلما ومفكرين حتى لو مقدروش يحققوا احلامهم بس كانوا بيحلموا بحاجه ليها قيمة، دلوقتى فوجئت ان بنات اخويا وجيلهم احلامهم مختلفه وماسخه ومالهاش طعم، إما بسبب التليفزيون أو الأفكار المتطرفة فقولت لازم يبقى فيه حل، لازم يكون فيه ملجأ فيه وسطيه واعتدال قدام البراعم اللى لسه بتتشكل دى، وان كان الاهل تاهوا فى ازمات الحياه والمدارس مبقاش فيها تعليم، يبقى احنا نمد ايدينا: انا وكل اللى يقدر يقدم شيء، وهبدأ بنفسى" اسمحلي أفاجئك غبت أشهر عن إلهام، واستمر تواصلنا الإلكتروني والفيس بوكي وبعض من رسائل محمول، وكانت المفاجأة في انتظاري أن إلهام قررت ألا تنتظر، وصنعت حلما صغيرا بنفسها حاربت من أجله في بيتها أولاً. لقد استولت إلهام على حجرة التخزين في الطابق الأرضي حيث اعتادت أمها أن تضع كراكيب البيت وأدواتها غير المستعملة وأدوات الخبز ومخزون البيت الاستراتيجي من مأكل أو ملبس أو أغطية. تمنعت الأم طويلاً، حتى تم دك حصونها بتحالف قوات المنزل بقيادة الجنرال إلهام التي أقنعت شقيقيها علاء مدرس اللغة الفرنسية، ومحمد الصيدلي، وأبيها الشيخ المتقاعد ليقفوا وراءها في الاستيلاء على غرفة الخزين لتتحول إلى الخان. والخان في اللغة هو المحل أو الدكان، ومنه اشتق اسم المسافر خان حيث اعتاد عابرو السبيل قضاء الليل وإراحة الدواب والتزود بالماء وتناول الطعام لمواصلة الرحلة، وهو ما قررت إلهام أن تفعله لتواصل رحلة السنوات القادمة مع أطفال قريتها حيث بدأت في أكتوبر الماضي في دعوتهم عن طريق أولاد شقيقها الأكبر لقضاء ساعتين كل جمعة للتزود ببعض من غذاء الروح بقراءة كتاب أو رسم لوحة أو الاستماع إلى قصة أو الاشتراك في اسكتش تعليمي، وتحلم أن تخرج معهم في رحلات قراءة أو مشاهدات لتفجير المواهب والأفكار. في أول جمعة لم يتجاوز العدد عشرة أطفال، ثم تضاعف، وكل جمعة في ازدياد. استغرق وصولي إلى قرية قطيفة مباشر عدة ساعات ليس لطول المسافة، ولكن لتعدد وسائل المواصلات الواجب التعامل معها من مترو إلى بيجو إلى عدة ميكروباصات. ساعدني الراكبون من أبناء الشرقية الكرام في الوصول إلى مبتغاي مع المهندس "هلفرد ناجل" المصور الألماني الذي دعته إلهام لتعليم الأطفال بعض قواعد التصوير الفوتوغرافي، ولكن "ناجل" الذي اختار إسم فريد للتواصل مع أطفال الخان، اختار أن ينهي جلسة التدريب العاصفة بأصوات الأطفال بجلسة اتخذ فيها قفازاً على شكل قط عروسا ماريونيت ليتحدث مع أطفال الخان عن كارثة الشنط البلاستيكية التي غطت وشوهت ضفتي الترعة التي تطل عليها القرية. فهم الأطفال الدرس ووعدت "إلهام" بورشة في الأسبوع التالي لصناعة حقائب قماش كالتي اعتدنا أن نحملها لمدراسنا قبل عقود، ثم تخلينا عنها أمام ألوان حقائب بلاستيك باربي العروس الشقراء. إيه رأيكم؟ الغريب في الأمر، أن "إلهام" استكمالاً لفرادة شخصها الطيب طلبت مني أن أدعوكم لسرقة فكرتها، نعم سرقة فكرتها. تقول إلهام إن كل شخص يعتبر أحيانا أن ما أبدعه هو فكرة من حر إبداعه ويذهب ليسجلها كبراءة اختراع، أما هي فكل ما تتمناه أن يتم سرقة فكرتها وتعميمها في كل كل قرية مصرية. الفكرة غير مكلفة لا تحتاج سوى 4 ساعات أسبوعية من المشرف عنها، ومكان متفق عليه وليكن غرفة في جمعية أهلية أو في مقر أحد الأحزاب أو جزء من نادي اجتماعي أو مركز شباب أو حتى بدروم أو سطح يتسع لعدة كراسي ومائدتين وبعض الأطفال المتحمسين لتعلم شيء جديد. إلهام تؤكد أنها لم تفعل شيئا سوى رعاية الفكرة وحولها دار المتحمسون، فأهلها تبرعوا بالمكان وأقاربها تبرعوا بالعمل من أجل دهان المكان وتجهيزه بكراسي ومائدتين بمبلغ صغير تبرع به صديق لإحدى صديقاتها سمع بالفكرة وتحمس لها ووعد بالزيارة والمساهمة في تمويلها من حين لآخر إذا أثبتت نجاحها، وآخر تبرع بكاميرا للأطفال، وأخرى تبرعت بمروحة وثالث بكمبيوتر مستخدم وعدة سي ديهات تعليمية ورابعة بمجموعة من الكتب، وهكذا سرعان ما تشكلت ملامح الخان الذي صار ملاذا حقيقيا لأطفال القرية. قالت لي إلهام إن البشائر هلت، ومن حولها يؤكدون أن الفارق أصبح واضحاً بين أطفال الخان وغيرهم، إذ أصبح روادها أكثر هدوءاً ووعياً، كما أنهم استوعبوا معلومات دون حفظ، وبعد أن كانوا يعتقدون أن الأدب هو الجلوس في صمت وطاعة، أدركوا أن الأدب هو فن يعتمد على الكتابة، له رواده أمثال، الراحل: "نجيب محفوظ" الذين اعتادوا حفظ اسمه مقروناً بجائزة "نوبل" دون أن يعرفوا عن الاثنين شيئاً. وهكذا، يبدو الأمر الآن مجدياً، ورغم خوف إلهام إلا أن الفكرة تبدو ممكنة. وأنت، إذا كنت لن تستطيع زيارة خان "إلهام"، ما رأيك أن تقيم خان جديد لنزورك ونكتب عن تجربتك؟، وليكن الأمل في تكرار الفكرة في 4 آلاف قرية حتى نتحرك خطوة للأمام، ونترك الدنيا أفضل قليلاً مما أتينا إليها. نحن في انتظار خطوتك في اتجاه الخان إما زيارة أو تعاونا أو تقليدا، وللتواصل إبحث عن خان "إلهام الجمال" على الفيس بوك، وألف مين يدلك !!! آمال عويضة