أمام سجن القناطر و تحديدا على بعد 20 متر من بوابة السجن يوجد كشك صغير ، قد يكون وجود الكشك فى هذا المكان أمرا عاديا ، لكن المتأمل سيلاحظ أن هذه المنطقة لا توجد بها مساكن .. و بالتالى فإن حركة البيع و الشراء من هذا الكشك تعتمد فقط على سجن القناطر .. تصوير : أميرة عبد المنعم قد تبدو هذه هى الأهمية التى دفعتنا لنذهب لهذا المكان لنعرف حكاية هذا الكشك و نخوض بشكل أكبر فى الحياة الإنسانية لصاحبه .. لكن عندما ذهبنا للمكان وجدنا ما لم نكن نتوقعه .. فهذا الكشك - وزبائنه من زوار السجن والعاملين به - له قصة تاريخية .. توفيق أمين غانم من مواليد 1883 بالحوامدية جيزة كانت نشأته خلال فترة الإحتلال الإنجليزى لم ينل قدرا كافيا من التعليم لكنه تعلم حب هذا البلد .. ورغم أن عائلته كانت ميسورة الحال خلال تلك الفترة إلا أنه مثل العديد من الشاب المصرى فى ذلك الوقت تميز بالتمرد على الأوضاع وشارك فى العمليات التى كان يقوم بها الشباب ضد قوات الإحتلال الإنجليزى .. فكان يقوم بقتل و خطف العساكر الإنجليز مع زملائه من الشباب ، لكن لم تشأ الأقدر أن يستمر توفيق أمين غانم فى أعمال المقاومة فتم القبض عليه فى عام 1924 و كان عمره وقتها 41 و لم يكن قد دخل دنيا أو تزوج و تم توجيه 14 تهمة له و كانت النتيجة أن حكم عليه بالسجن لمدة 31 عاما قضاها جميعا داخل سجن القناطر الخيرية و لم ير النور بعد ذلك إلا فى عام 1955 .. خرج الرجل من السجن وعمره 72 عاما بعفو من الرئيس جمال عبد الناصر لكنه لم يكن يعرف أى شىء عن ما سيفعله فى المستقبل ، و قد صدر العفو لهذا الرجل بعد أن وصلت أخباره للرئيس عبد الناصر .. و بعد خروجه من السجن أمر الرئيس بإقامة كشك له أمام السجن كمشروع ثورى .. عموما توفيق أمين إستقرت أوضاعه بعد خروجه من السجن و أصبح لديه عمل ، لكنه تخطى السبعين من عمره و ليس لديه أسرة ، المهم أنه تزوج و أنجب محمد و آية و هدى و تحول الكشك الذى اقامه له الرئيس عبد الناصر أمام سجن القناطر من مجرد كشك ليبيع فيه السلع إلى مسكن أيضا يقيم فيه مع اسرته و تحول الكشك الذى لا تتخطى مساحته 7 متر مربع ليقوم بمهام شقة تتكون من غرفتين و صالة و مطبخ وحمام بالإضافة لأنه مكان عمل .. سارت الأمور على ما يرام و اصبح توفيق أمين اشهر من النار على العلم فى هذه المنطقة و أصبح كل من فى السجن يعرفونه و إستمرت حياة الرجل على هذا النمط حتى مات فى عام 1970 عن عمر يناهز 87 عاما بعد أن صدمته سيارة و هو واقف أمام الكشك .. مات الرجل و ترك وراءه أسرة مكونة من أربع أفراد زوجة و ثلاثة أطفال لم يتخطى عمر أكبرهم 10 سنوات و زوجة لا تعرف ماذا ستفعل ولا تملك من الدنيا سوى هذا الكشك الصغير ، لم تتركه أو تبيعه بل قررت أن تكمل رحلة زوجها و ظلت فى المكان تبيع و تتاجر و ظلت هكذا طوال 32 عاما كافحت خلالها لكى تحافظ على كشك زوجها و الذى كان بالنسبة لها و لأولادها أكثر من مجرد ميراث بل هو جزء و كيان لا يمكن التخلى عنه و لا يمكن بيعه ، ونجحت الزوجة فى تربية أبنائها الثلاثة داخل الكشك الصغير و تزويجهم أيضا حتى توفت فى عام 2002 .. الإبن الأكبر لتوفيق أمين هو محمد توفيق عمره الآن 50 عاما عاش رحلة من المعاناة بعد وفاة والده و ترك التعليم فى مرحلته الإعداديه و أخذت الأيام تعانده تارة و تقف بجواره أخرى حتى إستقر به الحال ليستخرج رخصة قيادة و يعمل سائق على سيارة نقل و خلال هذه الفترة و قبل وفاة والدته تمكن من شراء شقة فى منطقة القناطر الخيرية و تزوج و أصبح أبا ل5 أولاد هم توفيق و أمين و عبد الرحمن و إبراهيم و مريم ، بعد وفاة والد أصبح فى حيرة من أمره ماذا يفعل فى الكشك الذى يعد بالنسبة له اثرا تاريخيا .. هل يتركه و يتنازل عن تاريخ والده ، لم يكن أمامه بديل سوى أن يترك عمله فى قيادة السيارة النقل ليعود للمكان الذى تربى فيه بعد وفاة والده خاصه أنه الرجل الوحيد و ليس له إخوة ذكور ، ، وأستطاع محمد توفيق الشهير ب " الشيخ توفيق " الحفاظ على هذا التراث و أصبحت له كلمة مسموعة فى المنطقة و نال نفس الشهرة التى حظى بها والده سواء داخل السجن أو خارجه ، لكن الفارق بينه و بين والده أن الكشك بالنسبة له مجرد مكان للعمل على العكس من والده الذى يسكن فى المكان فمحمد له شقة فى مدينة القناطر الخيرية يقيم فيها مع اسرته .. عمل محمد توفيق يبدأ فى الكشك من الساعة السابعة صباحا و ينتهى فى الثالثة عصرا لا يعمل يوم الجمعة ولا فى الأعياد و المناسبات الرسمية و هذه هى المواعيد الرسمية للعمل بالسجن و أيضا مواعيد الزيارات فهى مسموحة طوال أيام السبع ما عدا يوم الجمعة و أيام الأجازات .. تقريبا معظم زوار السجن يعرفون " الشيخ توفيق و يثقون فيه و يشعرون أنه شخص أمين لدرجة أنهم يتركون هواتفهم المحمولة و حاجاتهم الشخصية عنده قبل دخولهم السجن كأمانات يحصل أمامها على مقابل مادى و طوال ال8 ساعات عمل لا تستطيع أن تتحدث مع " الشيخ توفيق " بكلمة واحدة لأنه يكون مشغول هو أولاده و زوجته مع زوار المساجين و مع العاملين بالسجن فهذا يريد ان يحصل على هاتفه المحمول و هذه تريد شنطتها التى تركتها قبل دخولها للزيارة .