رضا هلال رغم انحناءة ظهره وضعف بصره، ووهن قوته، ولكنه عندما يصل إلي مسامعه وفاة أحد أبناء القرية يجري الدم في عروقه كما لم يجر من قبل؛ وتدب فيه الحياة وكأنه عاد شاباً في العشرينيات... يؤدي مهمته بكل تفانٍ وإخلاص متمتماً بآيات من الذكر الحكيم... لاهجاً بالدعاء للمتوفي طالبا له المغفرة والرحمة، واللحاق به علي خير ثم يلقنه الإجابة علي السؤال ملقناً ومردداً في غسله ربي الله، وديني الاسلام، ونبيي محمد صلي الله عليه وسلم، وما إن ينتهي من مهمته في الغسل والتكفين حتي ينادي بصوت جهوري أمام الناس بطلب الدعاء لمتوفانا. إنه الرجل الذي نعتقد أنه لن يطاله الموت، وفجأة صحوت منذ أيام في قريتنا كفر العمار علي خبر وفاة الشيخ عبدالفتاح محمد السيد وهو الرجل الذي استمر لأكثر من 50 عاما يُغسِّل موتانا، فقد حضرت معه وهو يُغسل أبي رحمه الله، وكان أبي قد حضر معه تغسيل أبيه »جدي»... الشيخ عبدالفتاح عاش حياته كلها مجاهدا متحملا الشقاء والعناء ليس لديه إلا الأذان والإقامة والصلاة في المسجد جماعة وتغسيل الموتي وكان يحفظ بعضا من القرآن الكريم... وكان دائما ملازما للصالحين من حملة القرآن الكريم ومنهم جدي عبدالعزيز رحمه الله وذات مرة كنت أقرأ علي جدي القرآن بحضوره، وكان دائما ما يداعبه جدي حول حفظه لكامل القرآن... وكان رجلا لطيفا عفَّ اللسان له ضحكة تخرج من القلب صافية نقية، تحمل برد الشتاء القاسي لعقود طويلة، ويفرح بالصيف لأنه يقيه زمهرير الشتاء. وهكذا الحياة لا أحد يعيشها أبدا فكل حي سيموت وجاء الدور علي الشيخ عبدالفتاح الذي أحسن الله خاتمته فقد صلي الفجر جماعة كما يفعل منذ اكثر من 60 عاما، وبدأ يقرأ آيات القرآن الكريم ففتح المصحف ولم يغلقه فقد انكفأ عليه مصافحا بوجهه الناصع البياض المصحف الشريف ويلقي وجه ربه الكريم... واعتقد انه لن يُغلق المصحف أبدا لأنه سيبعث يوم القيامة علي ما مات عليه. وها قد ذهب من كان يقلب الموتي لتجهيزهم للقاء الله أطهارا متوضئين فهو أكثر شخص يطلع علي أسرار البشر الأخيرة... ويعرف خواتيم وجودهم علي ظهر الأرض قبل ان يواري جثمانهم الثري تحت التراب.. عنده الأسرار تجري كالأنهار... بعضهم يعيشون بيننا عشرات السنين حتي نظن أن الموت لن يدركهم ولن يمر بجوارهم ولن يأتيهم أبداً. نسأل الله أن يحسن خاتمتنا جميعا.. ولعلنا نتعظ.. فملك الموت سيموت وسبحان من له الدوام.