كنت صغيرة آنذاك وكانت كل علاقتي بأوراق التوت أن أراقبها داخل علبة كارتونية صغيرة بها فتحات مستديرة لتتنفس الدودة الصغيرة التي تلتهم الأوراق الخضراء بهدوء.. كان كل ما يعنيني تلك الأسرار التي تحدث داخل الشرنقة لتتحول ذلك الكائن المتفاني إلي فراشة.. أو ربما تفشل ويلتهمها النمل في غفلة منا. ورويدا رويدا عرفت أن لأوراق التوت سحراً يرتبط بالمستور وبأصل الغواية وبسقوط تلك الأوراق تتكشف الحقائق، وأن لشجرة التوت أو كما تعرف التوتة حكايات كثيرة ترتبط بذكريات الصبا وبصوت الناي. ربما لهذا السبب اختار الفنان عبد الوهاب عبد المحسن أن يؤرخ لسيرة التوت في أحد معارضه التي أقامها مؤخرا تحت نفس العنوان بجاليري قرطبة بالمهندسين.. تأريخا فنيا يبتعد عن السرد بالكلمات أو حتي بالرسم.. وإنما من خلال حوار لوني صارخ بكل ما يعتمل داخل نفسه من معارك.. إنها حالة لكشف المستور باللون. ولكن تسمية المعرض لا ترجع إلي حالة الكشف وحدها بل إضافة إلي ذلك، فإن أحد الأسباب التي سمي بها هذا المعرض »سيرة التوت» هو ذلك المسطح غير التقليدي الذي استخدمه عبد الوهاب من أخشاب شجرة التوت، لتصبح التوتة حاضرة بقوة علي السطح.. ويأتي هذا الاختيار نظرا لعمل الفنان كثيرا في نطاق البرلس من خلال ملتقي البرلس للفن التشكيلي الذي تنظمه مؤسسة الفنان عبد الوهاب عبد المحسن للثقافة والفنون والتنمية. يقول الفنان: نستخدم أخشاب الشجر في صناعة المراكب التي يقوم الفنانون بالرسم عليها، وعادة ما يتم استغلال ما تبقي كفحم للمقاهي.. وقد قررت أن أختار مجموعة من القطع الخشبية المتبقية بشكل عشوائي دون تدخل سوي بتجهيز السطح ومعالجته وتجفيفه وصنفرته. أخشاب شجرة التوت كانت في هذا المعرض بديلا للمسطحات التقليدية للتصوير، وقد شهدت قطع الأخشاب ذاتها نوعا آخر من التحول لتظهر عدة مرات في شكل سمكة أو في مرحلة توحي لمن يراها بحالة التحول من جذع الشجرة إلي الجسد الإنساني الراقص.. ذلك التحول بين مفردات الطبيعة، والتحول علي السطح هو ما يعكس فلسفة الفنان عبد الوهاب عبد المحسن في متابعة تطور الكائنات.. وتأمل الطبيعة واستلهام روحها. يقول الفنان: كلها كائنات ترتقي لكائنات أخري.. التطور ونشأة الخلق إرهاصة للتمحور في الفن ونمو الشكل، وربما كان أكثر ما يميز تجربة الفنان عبد الوهاب عبد المحسن علي امتدادها هو اقترابه من الأرض حيث تخرج كل اللوحات من روح الطبيعة رغم ذلك لم يركن إلي التعبير الكلاسيكي والمنظر الطبيعي وإنما ذابت كل المفردات التي شكلت وجدانه لتخرج في شكل صياغة فنية مبتكرة تحمل بصمته ويغلب عليها طابع التجريد، حتي في تقديمه للشكل للإنسان كان بصيغة تشكيلية مختلفة اقترب فيها من الأرض ومن باقي الكائنات. يقول عبد الوهاب: الأمر له علاقة بالأرض بداية من الحرث، والتفتيش في الطبيعة وجسد الأشياء، ولذا فأنا لا أبني مفهوم المنظر الطبيعي بصورة تقليدية، وإنما تقترب الرؤية من التجريدية والتعبيرية من خلال بعد يخصني.. من خلال رؤية فيها دهشة وصياغة بصرية لها علاقة بالفنان. والصياغة هي أهم ما يميز الفنان، فالموضوعات متكررة ولكن التحكم في أبجديات التشكيل هو الأهم، علي الفنان أن يتحدث لغة بصرية خالصة..ويضيف الفنان : الصياغة لدي خاضعة لمبدأ التمرد والاعتراض والضجر والتجديد. ويظل المنبع الذي يستلهم منه عبد الوهاب عبد المحسن دائما هو المحيط الذي يعيش به، والطبيعة التي نشأ في أحضانها حيث يقول عبد الوهاب: ولدت في قرية صغيرة عام 1951، آخر سنة في عهد الملوك وكان الريف علي حاله وكانت هناك علاقة وثيقة بين الكائنات. تلك العلاقة الوثيقة بالطبيعة اتضحت في تجربته الفنية حيث قرر أن يحتفظ بالمكان في أعماله مقاوما الاغتراب ومؤكدا علي رغبته في التعبير عن أهله وناسه حتي لا يحدث قطع بالذاكرة. وربما كانت بحيرة البرلس واحدة من أكثر الموضوعات التي عالجها مقدما إياها بعدة خامات ووسائط ومنها الرصاص والألوان المائية والإكريليك والجرافيك والفيديو أرت وغيرها يقترب منها ويبتعد ويختزل ويضيف من شحناته العاطفية لتخرج كل مرة بشكل مختلف. ففي معرض الأخير الذي استضافه جاليري الشموع بالمعادي تحت عنوان »مدن الملح» - وهو نفس اسم رواية عربية شهيرة للروائي السعودي عبد الرحمن المنيف تقع في خمسة أجزاء - يتأمل عبد الوهاب مدي كثافة الملح في البحيرة ومدي تأثير ذلك علي تغيير ألوان الطبيعة وعلاقة مفردات المشهد من سماء ومياه وصخور ببعضها البعض حين تندمج لتتحول إلي نغمات في معزوفة كونية واحدة. جدير بالذكر أن الفنان حاصل علي بكالوريوس فنون جميلة قسم جرافيك من جامعة الإسكندرية عام 1976، كما حصل علي درجة الماجستير في فن الجرافيك من جامعة حلوان، وحصل علي درجة الدكتوراه في موضوع »رؤية تشكيلية معاصرة لرسالة الغفران لأبي العلاء المعري من خلال فن الحفر» عام 1998.