استيقظ مبكرًا ليذهب إليها سرًا قبل ازدحام البشر حولها، وقبل مغادرة الطيور التى اعتادت الاختباء والاحتماء بين أغصانها، حرص على أن يكون أول من يلامسها على استحياء، وبينهما أسرار وحكايات وذكريات ماضية وحاضرة، جلس أمامها يتأملها وهى تصارع شدة الرياح لتحتفظ بتوازنها، لتمنع أوراقها الكثيفة وأغصانها وحباتها من السقوط، أغطية من السحب ترويها، تصادقها بحيرة يقفز منها بين الحين والحين أسماك مبتسمة، لأنه يعشق جماليتها جلس يترقب لحظة خروجها من صمتها، ولكنها لا تجيد لغتنا لأنها ليست من عالمنا البشرى، تنتمى للطبيعة وتسكن فضاءاتها، مذاقها اللونى لا يتشابه مع ثمرة أخرى، تتغذى عليها دودة القز لإنتاج الحرير. «شجرة التوت» سندريلا الأرض، المسكونة بالأساطير القديمة والأقوال المأثورة التى أبدعها مزارعو أشجار التوت، والتى جذبت العاشقين والمبدعين والروائيين والشعراء، فقال عنها الشاعر محمود درويش: «أما أنا، فسأدخل فى شجر التوت،حيث تحولنى دودة القز لخيط حريرٍ، فأدخل فى إبرة امرأة من نساء الأساطير، ثم أطير كشالٍ مع الريح»، «سيرة التوت» هى إطلالة فنية جديدة للفنان التشكيلى عبد الوهاب عبد المحسن فى معرضه الذى أقيم مؤخرًا بقاعة «قرطبة»، اختار الفنان أن يقوم بدور الحكاء التشكيلى ويسرد لنا سيرة التوت بأدواته الفنية وتقنياته التشكيلية الخاصة، من حيث خامة الأعمال خرج الفنان من الأطر المألوفة والنمطية للوحة التصويرية المعتادة واستخدم أشجار التوت كوسيط جوهرى لتجسيد فكرته برؤية حداثية متحررة المعالجة، اقتنص بعض الأجزاء عشوائية الشكل من أشجار التوت وقام بمعالجته لاستخدامها كمسطح للفعل الفنى، بعض القطع تتشابه فى هيئتها الخارجية بالعنصر الإنسانى، توحى بعض القطع بملامح امرأة ممشوقة أحد نساء أساطير التوت وقفزت هربًا بذكرياتها المحفورة على أغصان الشجرة، وقطع أخرى من الأشجار تتشابه مع الأسماك فى ملامح مبتسمة وكأنها اعتادت مغازلة التوت من البحيرة المجاورة للشجرة. منحته قطع أشجار التوت حالة اتساق وتوافق تام مع الموضوع الفنى، استكملها «عبد المحسن» باسترجاع مخزونه البصرى وانطباعاته كفنان صاحب رؤية خاصة، ابتعد عن محاكاة واقع المشهد المكانى ومنح القيادة الفنية والتشكيلية والسيكولوجية لمحاكاة جوهر شجرة التوت، ومحاكاة الجوهر تبعه حالة فنية تجريدية اقتصرت على التناغم اللونى الشديد الحذر مع بعض المرونة، فرصد الفنان سيرة التوت لونياً وتجريدياً وحسياً. فى بعض أشجار التوت وضع الفنان توليفة لونية من الأحمر والأسود والبنفسجى والأبيض والأزرق واللون الذهبى قام بتوزيعها على هيئة خطوط ومتناقضات ملمسية ومساحات مرنة الحركة متمردة الحضور، من المرونة نتج آلفه وتصارع وتخفى بين المجموعات اللونية الأحمر والأسود وما بينهما من ملامس تلتف حول المساحات تتعانق معها بالتراضى والقبول، تلك ترجمة ورؤية من الفنان لنصوص وكتابات وذكريات محفورة تقرأ حسيًا وليس بصريًا. استخدام الفنان اللون الذهبى على بعض قطع أشجار التوت فهو اللون التراثى المستخدم فى جداريات الحضارات المصرية القديمة وجاء هذا اتساقًا مع قيمة التوت تاريخيًا وحضاريًا، حيث إن «توت» اختير ليكون أول الشهور القبطية، وهو امتداد للتقويم المصرى القديم، نسبة إلى الإله المصرى «توت» أو «تحوت» إله الحكمة والعلم والكتابة وحامى الكتبة. أما قطع أشجار التوت التى جاءت على هيئة اسماك فقد نالت من سمات التوت الكثير وبالأخص المجموعة اللونية وتجريدية التشكيل مما يؤكد وجود مصادقة إلهية بين عناصر الطبيعة ما فوق الأرض وما تحت البحار وإن لم يتم بينهما اللقاء. كما جاء بالعرض مجموعة من اللوحات التصويرية القليلة لشخصيات بورتيريهات رسمها الفنان بنفس تجريدية التوت، أضفى عليهم ملامح ونظرات جدلية وكأنهم فى حالة استدعاء للفترة زمنية كانت تربطهم بأشجار التوت أسرار، العرض بصفة عامة هو عزف لونى يشع أحاسيس بطعم التوت.