ورقة ضغط أم هروب ديني؟ الاعتكافات السياسية للبابا شنودة قرار الإفراج الذي أصدره النائب العام عن 70 من المتهمين في أحداث العمرانية والذي راعي فيه البعد الإنساني وقد تراوحت أسبابه ما بين الحفاظ علي مستقبل طلاب صغار غرر بهم وتم حشدهم، أو آخرين من المسنين والإبقاء علي بقية المتورطين في الأحداث في الحبس علي ذمة القضية، حمل في مضمونه أكثر من معني وحمل أكثر من رسالة تحتاج إلي تحليل دقيق. كان لافتا وبوضوح الالتزام بتطبيق القانون واحترامه، وفي الوقت ذاته كان العمل بروح القانون مع ال 70 حالة.. وفي سياق متصل لم تأبه بالضغوط التي تناثرت منذ وقوع أحداث العمرانية للإفراج عن جميع المتهمين، والرسالات التي خرجت عن البابا شنودة في عظاته الأسبوعية وما تلاها مما قيل بشأن اعتكافه مؤخرا في دير وادي النطرون كوسيلة ضغط أو احتجاج. الاعتكاف الأخير والذي شابه لغط كبير حول أسبابه وتأويله جاء ضمن سلسلة من الاعتكافات السياسية، التي استنها البابا شنودة بعد جلوسه علي الكرسي البابوي منذ 39 عاما والتي لجأ إليها جميعا عقب أي مشكلة للأقباط أو للكنيسة، أو لصدور أحكام قضائية يعترض عليها، حيث يقرر قداسته الاعتكاف ويذهب إلي دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون حيث مقر يجد فيه راحته. تكرار ذات التصرف مع كل مشكلة قبطية أفرغت المعني من محتواه حتي إنها أصبحت بلا تأثير تقريبا والأخطر أن البابا بها أدخل ما هو روحي فيما هو مادي وأنزل الطقس الديني من عليائه ليختلط بالسياسة وإن كانت علامة تميز عهده عن الباباوات السابقين «الراحلين». قبطيا، الاعتكاف هو سلوك رهباني وكهنوتي يلجأ إليه الراهب والقصد منه روحي للتعبد وتطهير النفس من شوائب الانغماس في الدنيا حيث يخلو إلي ذاته ويصلي اقتداء بالمسيح ونص الكتاب المقدس عنه «كان يختلي في الصلاة منفردا».. ويطلق علي المعتكف بالعامية الدارجة في الأديرة إن فلاناً «حابس» - أي حبس نفسه في قلاية وانقطع للعبادة - علي أن تكون سرية، وقد تكون أحيانا وسيلة تهذيب حيث قد يفرضها أب الاعتراف علي أحدهم إن ارتكب خطيئة للتطهر أو معالجة برود روحي لديه. أما الأمر لدي البابا شنودة فقد تحول إلي وسيلة ضغط.. احتجاج واحتجاب.. فهل هذا صحيح تعاليم الكتاب المقدس، فالاعتكاف السياسي لم يكن أبدا من شيمة الرهبان أو البطاركة، خصوصا أن الأمر لا يحتاج من قداسته الذهاب إلي دير وادي النطرون إذ لدي قداسته خلوته الخاصة غير المسموح لأحد بدخولها في الجناح الذي يقيم فيه بالمقر البطريركي ويمكنه أن يختلي بنفسه منفردا. المدقق في سيرة البابا يلحظ بوضوح أن الاعتكاف الاحتجاجي أسلوب قديم لديه حتي من قبل توليه البابوية إذ كان يلجأ إليه عندما يظهر خلاف بينه وبين البابا «كيرلس» وقت أن كان راهبا وكانت خطبته في مريديه موعدها يوم الجمعة والتي كان يتعمد الغياب عنها والاعتكاف في الدير حتي تهب الجماهير الغفيرة ويتمردوا علي البابا السابق «كيرلس»! يجب هنا التفريق والمقارنة بين اعتكافات البابا المتكررة منذ خلافه العنيف مع الرئيس السادات في أواخر السبعينيات علي خلفية مشروع تقنين حد الردة الذي رأي فيه البعض إعادة تفعيل للخلايا الراديكالية الإسلامية وصاحبها تخوف قبطي دفع البابا للاعتكاف وأن يدعو الأقباط للصلاة والصوم 5 أيام وكانت بداية الصدام الأعنف بين السادات والبابا والذي وصل ذروته في عام 1981 حين امتنع عن صلاة عيد القيامة وذهب إلي الدير وأعطي تعليماته للكنائس بعدم تعليق الزينات أو استقبال المهنئين من المسئولين وكانت نتيجتها صدور قرار تحديد إقامته. حينها كانت اعتكافات البابا تغلفها رسالات سياسية صريحة وحادة في شكل بيانات كتلك التي كان يصدرها ما يسمي مجمع كهنة إسكندرية وتحوي هجوماً واعتراضات علي سياسات الرئيس السادات.. أما الاعتكافات الباباوية الحديثة والتي تكررت منذ أحداث الكشح والراهب المشلوح والأوقاف القبطية وقضية وفاء قسطنطين اختفت عنها الغلافة السياسية وتركت الأسباب معلقة وغير معلنة للتأويل للأساقفة وجميعها جاءت تلميحا دون تصريح واكتفاء البابا والكنيسة بتوصيل رسالتهما. وهو ما ينطبق علي الاعتكاف الأخير لقداسته والذي شابه غموض وتضارب في التصريحات والتأويلات لأسبابه ،ما بين التصريح بأنه جاء اعتراضا علي عدم الإفراج عن المتهمين في أحداث شغب العمرانية وما بين التلميح عنها دون الاعتراف بها كما جاء في تصريحات الأنبا «بسنتي» - أسقف المعصرة وحلوان - الذي قال: «اعتكاف البابا هدفه الصلاة من أجل مصر ومن أجل حل مشاكل الأقباط». «بسنتي» أكد أن البابا رفض تحديد موعد انتهاء اعتكافه، لتكتمل صورة الاحتجاج السلمي ويظل الباب مفتوحا لكل التأويلات كما أرادها البطريرك ليصبح اختفاؤه وصلواته ورقة ضغط. ذلك التضارب في التصريحات الكنسية هل يؤسس لمعتقد انفلات الأمور في الكنيسة وإنها لم تعد تحت السيطرة الكاملة وأن ظروف انشغالات البابا ووعكاته الصحية - شفاه الله - خلقت جوا من التطاحن والصراعات حول أسلوب إدارة الكنيسة القبطية؟ أخطر ما في الأمر كيفية ترجمة الرأي العام بتنويعاته واختلافاته لهذه الاعتكافات.. فغالبا ما يتلقفه رجل الشارع القبطي بأن البابا معترض علي قرارات قد تخص الدولة وأن هناك أزمة وإذا لم يصل به الأمر أن يصطدم فهو علي أقل تقدير يخلق لديه حالة من التعبئة الطائفية مخزنة في نفوس الأقباط. في حين يفسرها الرجل المسلم وفق الرؤية النمطية والنغمة السائدة عن استقواء الكنيسة وأنها ترسخ لفكرة دويلة داخل دولة. حل الأزمة هنا ليس بإقناع البابا بالخروج من صومعته ولكن بإخراج المؤسسات الدينية في مصر من ملعب السياسة، وتصحيح الخطأ بتمثيل الكنيسة للأقباط والتعامل معهم علي أنهم مواطنون وليسوا رعايا لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات.. والمعبر عنهم البرلمان وليس البابا أو الأسقف! وهي الوضعية التي استغلتها الكنيسة بإعادة صياغة وكتابة المفاهيم الدينية بما يتفق مع مصالح قادتها الجدد بقصد عدم المساس بمكتسباتها في ال30 عامًا الماضية. المحصلة سلبية لاعتكاف البابا حتي لو كان في المرات الأخيرة منزوع الدسم السياسي، فأسلوبه حالة استثنائية في التعامل مع الدولة والعلاقة بينهما قد تعاني خللا في السنوات الأخيرة، ويصور البعض خطأ أن الدولة في حالة وهن.. وحقيقة الأمر أن الدولة المصرية قوية ومركزية ولا طائفية، وأغلب المشاكل تصدر عن مواطنين فيها إما متعصبون أو بيروقراطيون، وتتشعب المسئوليات عن الأحداث الأخيرة ما بين تشريعات منقوصة وأجهزة تنفيذية أو تفجر مشاكل مثل إقامة الكنائس أو تجديدها أو إعادة بنائها وكذلك قضايا الأحوال الشخصية، ويحلو للبعض تعليقها في رقبة الأمن المنوط به نزع فتيل أزمات هي أساسا من صنع غيره.